رمضان الذي لم نعرفه

 

مسعود الحمداني

Samawat2004@live.com

(1)

كان شهر رمضان شهرا استثنائيا، يغيّر نمط الحياة، ويقلبها رأسا على عقب، ويحيل كل شيء إلى مشهدٍ مختلف، يجتمع فيه الناس، ويتزاور الأقرباء، وتكثر صلات الأرحام، ويتحوّل الليل إلى نهار، وتنشط الألعاب الرياضية، ويكثر الازدحام في مطاعم ومقاهي الليل، ويسمر الشباب، وتتسمّر الأسر أمام شاشات التلفاز.. وتزدحم المساجد بالمصلين والقائمين، ويتبادل الجيران الأطعمة، وتمتد موائد الرحمن في كل مكان..

كان هذا قبل سنة من الآن!

اليوم تغيّر كل شيء.. وانقلبت مظاهر رمضان الاعتيادية رأسا على عقب مرة أخرى..حُبس الناس في بيوتهم، وأبواب المساجد مغلقة، لا صلوات جمعة، ولا صلاة تراويح، ولا تهجّد، الأسواق شبه خاوية، والمقاهي تتعامل بحذر من خارج الأبواب، والأنشطة الرياضية متوقفة، والجيران لا تكاد تراهم، لن يكون هناك تجمعات أسرية، ولن يتبادل الجيران الأطعمة، ولن يزدهر سوق "أطعمة الشارع".

كل شيء تغيّر اليوم!

فيروسٌ لا يُرى بالعين المجردة حبس العالم كلّه، وأعاد الإنسان مرة أخرى لاكتشاف نفسه وقدراته، وأنهك العلم والتكنولوجيا، وجعل العلماء يسابقون الزمن والمرض ليصلوا إلى علاج حاسم، دون جدوى، وسلّم الجميع أمرهم إلى الله خالق كل شيء ومدبّر الأمر.

(2)

بينما يتسوّق البعض كل ليلة دون توقّف، تجدهم في المجمعات التجارية، وأسواق الفاكهة والخضروات، يملأون السلال بما لذ وطاب، ويمدّون موائد الإفطار والسحور على طول الصالات لئلا ينقصهم وجبة أو نوع من الأطعمة، يقضي آخرون يومهم يفكرون في ما يأكلونه على الإفطار، أولئك الذين توقفت أعمالهم، أو "جُزّت" رواتبهم، أو فقدوا وظائفهم، ووجدوا أنفسهم فجأة أمام قدرٍ آخر.

أقساط البنوك والبيوت والسيارات من أمامهم، واحتياجات أسرهم، وظروف معيشتهم من ورائهم، ينظرون إلى السلعة فيفكرون ألف مرة قبل أن يشتروها.. لا يعلمون عن الغد شيئا، ولا يعلمون متى تنتهي هذه الأزمة، ولا يعرفون متى تُرفع الكربة.. عيونهم على ما ادّخروه- إن كانوا ادّخروا شيئا أصلا- وهم يرونه يتناقص يوما بعد يوم، وأصبحت عيون بعضهم مترقبّة على ما يجود به الميسورون لهم، وما تمدّهم به جمعيات أعمال الخير لهم، بعد أن كانوا مستوري الحال، عفيفي اليد.

واقع جديد ورهيب لا يشعر به إلا أولئك الذين يعايشونه ويعيشونه كل يوم، وهم يتجرعون مرارة الحاجة، وقلّة الحيلة، وضيق أفق المستقبل، ويتمسكون بخيوط الأمل الواهية..

ولكنّ الله قريب.

(3)

ستمضي هذه الأيام- بإذن الله- وستعود الحياة إلى طبيعتها، وستزول هذه الغمّة عاجلا أو آجلا، وسيذكر الناس هذه الفترات بكل تفاصيلها، وعناوينها، وسينسى الكثيرون ما مروا به، والحكيم هو من اتعظ بنفسه وبغيره، ولعل "كورونا" أصبح واعظا في ثوب وباء، واعظٌ قاسٍ ولا شك، ولكنه أعطى دروسه، وعظاته للعالم كله، وأظهر لكل البشر كم هم ضعفاء أمام المجهول الذي لا يتوقعون مجيئه.

رمضان مختلف فعلا، لم نعرفه منذ خرجنا إلى هذه الدنيا، ولن نشتاق إليه إذا غادرنا إلى غير رجعة.

نسأل الله اللطف والسلامة والعافية للجميع.. ورمضانُ خيرٍ على كل المسلمين، والعالم.