عبد الله العليان
لاشك أنَّ العالم كله صدم بما أحدثته جائحة كورونا بما لم يصدم من أوبئة سابقة، من مخاطر وخسائر، على المستويين الوجودي للإنسان، وعلى المستوى الاقتصادي والاجتماعي، وليس هذا فقط، بل أبرزت الكثير من الخلل في القدرات الصحية، في الدول المتقدمة، خاصة المصاعب التي واجهت الأطباء والممرضين، الذين لم يجدوا الاستعدادات الكافية في المستشفيات والمراكز الصحية، وكذلك العلاج لهذا الوباء، نظراً للأعداد الكبيرة من المرضى، والإصابات المتزايدة في كل لحظة بهذا المرض الخطير، فالذي حصل لم يكن ضمن الاستعداد الكافي من هذه الدول، إلى جانب نقص الأجهزة الضرورية كـ(أجهزة التنفس)، التي لم تكن متوفرة بالقدر الذي يحمي الكثير من الأوراح، لكن بعض المحللين الغربيين ـ ومنهم نعوم تشومسكي ـ يرى أن بعض "العلماء حذروا من الجائحة لسنوات، خاصة منذ وباء سارس عام 2003، وكان الوقت مناسباً منذ ذلك الحين للبدء في بتطبيق أنظمة الاستجابة السريعة استعدادا لتفشي المرض". فالأمر لم يلق استجابة بحسب تشومسكي، فقد "كانت إشارات السوق واضحة، ليس هناك ربح في منع وقوع كارثة مستقبلية"!. والحقيقة أنَّ هذا الوباء كشف الكثير من العيوب والثغرات، التي حدثت في أصل البنية الفكرية والتخطيطية للدول الرأسمالية الكبرى، بعدما وصل إليه، منذ أكثر من قرن من التقدم على كل المستويات، وامتلاكه القدرات والإمكانيات العلمية والتكنولوجية على الوجه الأخص، فماذا سيحدث بعد انتهاء هذه الجائحة بعد الخسائر والتصدعات في الأعمال والوظائف والأزمات العديدة التي ستنتج عنها؟
لا شك أنَّ هذا الوباء سيكون له الكبير من التأثر على الصناعة والاقتصاد والاجتماع، والتأثير الأكبر، فهو على شعوب الدول التي تأثرت كثيراً من هذا الوباء، والتوقعات أن الوفيات سترتفع إلى الملايين، إن لم يتم العلاج السريع لهذه الجائحة، لكن التوقع الأهم أنَّ النيوليبرالية التي أقصت الليبرالية المعتدلة في بداية السبعينيات من القرن الماضي، ستواجه الكثير من السهام لنظامها الاقتصادي، خاصة وأن أنصار الليبرالية المعتدلة، ينتقدون كثيراً توجهات دعاة الليبرالية الكلاسيكية أو المطلقة، التي كانت ترفع الشعار القديم الذي أطلقه الفيلسوف والاقتصادي الأسكتلندي "أدم سميث":( دعه يعمل دعه يمر)، وهذا يعني أن الإتاحة التامة لحركة السوق دون تدخل الدولة، ما سيحقق التوازن الكامل بين العرض والطلب، لكنَّ هذه الرأسمالية المتوحشة بحسب بعض نقادها، أنها أدت إلى أزمات ومشاكل اجتماعية جراء استغلالها لهذا النظام الاقتصادي لصالح الشركات الرأسمالية، وأدى إلى ظهور حركات سياسية وفكرية، مناهضة لليبرالية الكلاسيكية، ومنها الفلسفات التي تدعو إلى إعادة النظر في النظام الرأسمالي القديم، والمطالبة بالحقوق الاجتماعية للعمال، كالاشتراكية الديموقراطية والاجتماعية، ومنها الفلسفة الماركسية، التي كانت لها ردة فعل كبيرة في أوروبا، في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، كرؤية مضادة لليبرالية في عمومها،لا سيما النظام الرأسمالي، كما تأسس في القرن الثامن عشر والتاسع عشر. صحيح أن أزمات كثيرة عصفت بالنظم الليبرالية، في القرن العشرين، في فترات عديدة، خاصة ما عُرف بالكساد الكبير الذي حدث عام 1929، وتوالت الدعوات من الفلسفات الاجتماعية، إلى المطالبة بمراجعة النظام الرأسمالي، وما سببه من أزمات الاحتكار والاستغلال، وفي ظل تزايد وتغلغل الأفكار الاشتراكية الديمقراطية المتعددة في النظام الليبرالي نفسه، والتي لاقت الكثير من أحزابها شعبية في الدول الغربية، ووصولها للحكم، ومنها، المملكة المتحدة، والنرويج، والدنمارك، وبعد الحرب العالمية الثانية أيضًا، استولت الأحزاب الاشتراكية الماركسية على الحكم في غالبية دول أوروبا الشرقية، مما شكل ضغطاً كبيرا على الليبراليين الكلاسيكيين في غرب أوروبا، والقبول بمراجعة النظام الرأسمالي، وتدخل الدولة في الكثير من الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية، التي كانت مرفوضة من الليبرالية التقليدية، التي ترى أن الحرية المطلقة للنظام الرأسمالية، هو الذي يحقق التوازن والتلقائية في حركة السوق، في النشاط الاقتصادي، دون تدخل من الدولة أو تقييد نظمه في الحرية الاقتصادية، لكن هذا القول انتقد من دعاة الليبرالية المنظمة، الذين قالوا إن الليبرالية المطلقة، أو الطائشة كما يسميها البعض، فقدت التوازن إلى حد أنها لم تستطع أن تحقق التلقائية كما كانت تقول في مسألة العرض والطلب، وأدى إلى أزمات اقتصادية وسياسية كما أشرنا آنفاً، واستلزم تدخل الدول، ليعيد التوازن وتقليص الاحتكار وفق نظرية" جون مينارد كينز"، في معالجة أزمة الكساد، والتي نجمت عن الإضرابات وبروز الحراك السياسي للتغيير من أحزاب سياسية ومؤسسات المجتمع المدني في أوروبا والولايات المتحدة، ونجح هذا التوجه، في تقليص الكثير من السياسات الاقتصادية لليبرالية التقليدية، لكن الذي حقق لليبرالية ـ في رأيي ـ هذا الصمود دون توترات في نظمها الاقتصادية والسياسية، هو التجديد والمراجعة لمسارها في تعديل السياسات الليبرالية، عند حصول التحولات والتغّيرات، بعد كل أزمة من الأزمات، وتدخل الدولة الفعلي وليس التلقائي لإعادة التوازن، وتحقيق الكثير من الحقوق الاجتماعية والاقتصادية، وخاصة حقوق العمال والإنفاق في الخدمات العامة وغيرها من الاستثمارات الحكومية للصالح العام، بعكس النظام الماركسي الذي لم تتم مراجعته لما يقرب من 70 عاماً، حتى تلاشت هذه النظم في منتصف القرن العشرين.
فأزمة جائحة كورونا ربما ستكون أخطر من الكساد الكبير في القرن الماضي، فالأزمة الراهنة، ستسبب الكثير من المشكلات، منها الاستغناء عن الملايين من العمال في الشركات والمؤسسات الصناعية، إلى جانب الخسائر في الأوراح، التي حصلت، دون أن يجد أغلبهم، الوسائل والإمكانيات لتفادي حصاد هذه الخسائر الكبيرة، فالثمن سيكون باهظاً على كل المستويات، وهذا ما يعزز التنبؤات ببروز قوى سياسية واقتصادية، في النظام الليبرالي نفسه، وربما يتعدى الإضافة والتعديل الذي حدث في فترات سابقة؟ لكن هل هذا سيأتي، دون قفزات وتغيرات عنيفة؟ ..
من الصعب التكهن بما سيحدث، لأن المشكلة لا تزال في بدايتها، لكن المؤشرات الأولية تقول إن التكلفة ستكون كبيرة في النظم الليبرالية المطلقة، إن لم يتدارك العالم الأزمات السياسية والاقتصادية الناتجة عنها، كالتي جرت قبل الحربين العالميتين، وما بعدهما.