مدرين المكتومية
ما الذي يجعل فيروس كورونا يصوِّب سهامه القاتلة بقوَّة وبكل عنف نحو قلب أمريكا النابض، نيويورك، ألأنها عاصمة المال؟ أم لأنها عاصمة الدبلوماسية العالمية التي تحتضن مبنى الأمم المتحدة العتيق، تلك هذه المنظَّمة التي أخفقتْ في إرساء السلام في العالم، واستغلت دولٌ جزءا منها لتكون قاعة لعقد الصفقات المشبوهة بين السياسيين ونشر الحروب في العالم!!
لماذا تتكبَّد نيويورك أكبر خسائر بشرية في العالم جراء تفشي وباء كورونا؛ فأكثر من 10 آلاف إنسان لفظوا أنفاسهم الأخيرة هناك، لتتحوَّل تلك المدينة الصاخبة إلى مدينة أشباح، ومقبرة جماعية لألوف من البشر، وتتصدَّر المدن العالمية في حصد الأرواح بسبب كورونا.
نيويورك عاصمة المال قلب الرأسمالية المتوحشة ليس في الولايات المتحدة وحسب، بل العالم أجمع؛ فبورصة نيويورك وبنوك أمريكا في نيويورك هي عَصَب الاقتصاد العالمي، فهل يمكن لنا أن نربط بين تلك المعطيات وما يحدث الآن في هذه المدينة؟ الأمر لا علاقة له بنظرية المؤامرة، لكن ربما هناك مخطط ما سيستفيد منه البعض اقتصاديًّا؛ فيتم حاليا تضخيم الأزمة وتغيير معالمها من أجل أرباح بعينها.
زُرت نيويورك في صيف 2014، ورأيتها مدنية لا تنام، إيقاع الحياة فيها متسارع لا يتوقف، هي أشبه بماكينة عملاقة يعمل فيها مئات الآلاف من البشر، لكي تبقى في حالة دوران مستمر، فسكانها من مختلف مدن العالم، ومنذ الوهلة الأولى عندما نزلت فيها، وصفتها في مذكراتي اليومية بأنها "مدينة عنيفة"، يشعر المرء فيها وكأنه كائن صغير يسير بين ناطحات سحاب عملاقة، لن تستطيع عينه الوصول إلى الطابق الأخير منها!! المرء في نيويورك تائه.. ضائع لا يعرف وجهته وربما يضلها، فكل شيء فيها يقودك للجنون، والخوف والرعب في الوقت نفسه، تود أن تستمتع بكل تفاصيل لياليها، لكنك تظل خائفا، ربما لأنك بين الحين والآخر لابد أن تسمع أصوات سيارات الشرطة تصرخ، وفنارها يلوح بأنواره الحمراء والزرقاء، وكأن عملا إرهابيا سيحدث، أو أن لصا يحاول الفرار من أيدي أصحاب البذات السوداء!
على الرَّغم من الحياة الصاخبة التي كان يعيشها سكان نيويورك، فها هي الآن تَشهَد تحولًا كاملًا في تفاصيل الحياة؛ فقد تحولت لبلد أشباح بعد أن غزاها كورونا، أصبحت أشبه بسجن لكل مواطنيها الذين لا يُمكنهم الخروج من منازلهم، وكأنهم يعيشون مرحلة تاريخية وتحولًا كبيرًا في هذه العاصمة التي لم يتوقَّع أي شخص في أي لحظة أن تنهار وتسقط من علوِّها.
ونتيجة لهذا الوضع المأساوي، رأينا ذلك القدر الهائل من الانتقادات والغضب تجاه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب؛ نظرا لتأخُّره في اتخاذ القرار المناسب في وقت مبكر للتعامل مع الجائحة؛ حيث أُدِين من قبل كثيرين بأنه كان قادرا على اتخاذ تدابير احترازية، لكنه لم يفعل بعدما هوَّن من تأثيرات الفيروس على بلاده!
الآن.. أستعيد أبيات الشاعر الكبير أدونيس من قصيدته التي حملت عنوان "قبر من أجل نيويورك"، والتي ألَّفها في العام 1971، وقال فيها: "نيويورك.. حضارة بأربع أرجل... كل جهة قتل وطريق إلى القتل... وفي المسافات أنين الغرقى"، فهل حملت القصيدة نبوءة أم تكهنًا من أدونيس لما ستؤول إليه نيويورك؟ فما الذي كان يشغل باله عندما كتب عنها؟ هل تخيلها في ذلك الحين وهي تتحول إلى تابوت كبير، وشوارعها إلى جنازات مهيبة؟!