المساجد ومواجهة "كورونا"

د. ماهر الحايك

تحتاج الأمم في أوقات الأزمات إلى ما يُوحِّدها من أجل تجاوز هذه الأزمات والخروج منها أقوى مما كانت عليه قبل بدء هذه الأزمات.

الإنسان خلال تاريخه الطويل على الأرض، حاول البحث عن الحل الأمثل لمواجهة الأزمات؛ فالبعض دعا إلى الحل الاقتصادي فظهرت الإقطاعية والبرجوازية والشيوعية والرأسمالية، والبعض دعا إلى الحل الإنساني فظهرت البوذية والهندوسية، والبعض دعا إلى الحل القانوني فظهر قانون الطوارئ وقانون مكافحة الإرهاب. ولكن جميع هذه الحلول لم تستطع تحقيق النجاح التام في مواجهة الأزمات؛ كونها لم تستطع الجمع بين الحاجات الأساسية للمكونين الرئيسيين للإنسان: الروح والجسد.

لكن بقيت الديانات السماوية الحل الأفضل وطويل الأمد في مواجهة الأزمات؛ كونها تجمع كلًّا من الناحية الروحية بداية بربط الإنسان بخالقه، واحتياجاته البشرية ثانيا بما تمتلكه من تعاليم تنظم حياة الناس وعلاقاتهم، منطلقة من الالتزام بالأخلاق كشرط أساسي لنجاح هذه العلاقات بين الناس. وحيث إنني مسلم فسأكتفي بالحديث عن الإسلام.

واختص الله -عز وجل- أمتنا بدين عظيم لا مكان فيه للانعزال والرهبانية، بل هو دين يدعو ليكون الفرد قطعة متصلة ضمن بناء متماسك هو المجتمع بأكمله "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا"، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، حتى يظل المجتمع متماسكا مهما مرت عليه من ظروف صعبة أو غير متوقعة.

وهنا.. تحضرني القصة الأهم في القرآن الكريم -حسب رأيي المتواضع- وهي قصة سيدنا آدم عليه السلام؛ فبعد أن أخبر الله عز وجل الملائكة نيته إرسال خليفة عنه إلى الأرض، كان من الطبيعي أن تتحمس الملائكة للفكرة وتشيد بها، ولكن ما حدث كان العكس تماما: "أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك"، ولطالما استوقفتني هذه العبارة، ولم أكن أجد لها تفسيرا، حتى تذكرت ما كنا ندرسه في كتب التاريخ؛ فقد قامت معظم الدول في العصور الماضية على أن هناك توكيلا إلهيًّا لأصحابها بحكم الأرض وعلى الناس العاديين إطاعتهم والعمل بأمرهم نتيجة هذا التوكيل، وقد أدى ذلك فيما بعد إلى رغبة هؤلاء الحكام في التوسع وما نجم عن ذلك من حروب وسفك لدماء الأبرياء.

إذن.. لقد كانت الملائكة مُحقَّة عندما سألت الله -عز وجل- عن أن وجود خليفة له على هذه الأرض سيدفعه للغرور، وسيُشعره بأنه الوحيد صاحب الحق في التحكم بشؤون غيره من البشر والكائنات الأخرى.

وهنا.. يأتي الرد الإلهي بشكل حاسم لا لبس فيه، إنَّ أهم ميزة لهذا المخلوق الجديد هي قدرته على التعلم "وعلم آدم الأسماء كلها"، بل واختبره أمام الملائكة ليقنعهم -عز وجل- بصحة اختياره.

ولكن ما هو المصدر الذي يجب أن يتعلم منه المؤمن؟ إنه كما نعلم جميعا القرآن الكريم.

إن القرآن الكريم كتاب فريد في أسلوبه، يجمع المعاني الروحانية بالمشاكل الحياتية في طرح متناسق يخاطب العقل والقلب معا، ويدرس المشاكل التي قد تواجه المجتمع الإسلامي بأسلوب سهل بسيط يستطيع القارئ العادي أن يفهمه، فيقوم هذا الكتاب العظيم بتحليل أسباب المشاكل وتحديد نتائجها، والأهم من ذلك يضع لها الحلول المناسبة بشكل خال من التنظير وبشكل سهل قابل للتطبيق.

لكنَّ القرآن لا يعدو كونه كتابا سماويا وحسب؛ لذا كان لا بد من وجود شخص قادر على استيعاب كل ما فيه وتحويله إلى واقع حياتي معاش، لذا وقع الاختيار على النبي -صلى الله عليه وسلم- لتحقيق هذا الهدف، بما يمتلكه من مزايا نفسية وصفات أخلاقية رائعة لم تجتمع في إنسان قبله أو بعده، وقد تعرض خلال مسيرة حياته لكل ما من شأنه أن يكشف عن أصالة معدنه وصدق تصرفه العفوي النابع من نفس كريمة مترفعة عن كل ما هو دنيوي زائل، ومخلصة في نقلها لهذه الرسالة العظيمة بكل صدق ودون نقص أو تشويش.

وحتى يستطيع النبي إيصال رسالته للمؤمنين، كان لا بد له من مكان يجمعه فيهم بحيث تصل الرسالة واضحة لا لبس فيها، لذا كان بناء المسجد النبوي هو العمل الأكثر عبقرية في الدولة الجديدة، فقد استطاع أن يحقق عديد النقاط: الإنسانية منها كتجمُّع للمسلمين في صلاتهم وكملاذ للفقراء وابن السبيل ممن ضاقت بهم أسباب العيش، وتعليمية كمدرسة لتبيان أحكام الدين لمن لم يستطع فهم أمور العقيدة أو العبادات، والأهم من ذلك سياسية بتوحيد الصفوف في مواجهة الأزمات حيث كان الناس يجتمعون فيه مع قائدهم الملهم -صلى الله عليه وسلم- لتحليل الموقف ووضع التصور المناسب حول أفضل الحلول لمواجهة الأزمات.

وقد أضافَ المسلمون في المراحل التالية دورًا إضافيًّا مهمًّا للمسجد؛ إذ أصبح جامعة يتخرج فيها أخلص العلماء الذين ما زلنا حتى هذا اليوم ننهل من علمهم وأفكارهم الشيء الكثير.

وها.. نحن اليوم نواجه أزمة فيروس كورونا (Covid-19) ونحن في أمسِّ الحاجة إلى كل ما من شأنه أن يزيد اللحمة بين أبناء البلد الواحد، ولا يوجد مكان أقدر من المسجد على توحيد الناس وتبيان تطورات الوضع بشكل يزيل أي خوف أو احتقان في الصدور، وينشر المعلومة الصحيحة بطريقة سهلة وبسيطة قريبة من قلوب الحاضرين وعقولهم.

وهنا.. قد يسأل سائل: ألا يمكن أن يتسبب فتح المساجد وإقامة الصلوات داخلها في انتشار المرض؟

إنَّ الإجابة عن هذا السؤال كانت ستبدو صعبة للغاية عند بداية ظهور المرض بسبب عدم معرفة طريقة انتشاره، وعدم توافر البدائل للوقاية من انتشاره. فكما أصبحنا نعلم جميعا فإنَّ ذروة انتشار المرض تكون خلال فترة اشتداد الأعراض؛ وبالتالي فإن أي شخص غير مصاب لن ينشر المرض، كما أن احتمال انتشاره من شخص في طور الحضانة لم تظهر عليه أعراض المرض ضعيف جدًّا، خاصة مع تقوم به السلطات الصحية من جهد مشكور لتوفير الكمامات، وأخيرا وهو الأهم الاعتراف الذي بدأت بعض الجهات غير الإسلامية تطرحه من دور للصلاة والتعاليم النبوية الشريفة في مواجهة الأوبئة، فإذا كان غير المسلمين يقترحون الحل الإسلامي، فلماذا نضيع على أنفسنا فرصة الاستفادة من أهم سلاح لدينا يوحدنا في هذه الأزمة؟!

وبعد نجاح فكرة الحجر الصحي، والتعاون الرائع الذي أبداه أبناء بلادنا العربية والإسلامية، خاصة بعد التزامهم الكامل بالحديث النبوي الشريف الذي رواه الشيخان: "إذا سمعتم بالطاعون بأرض فلا تدخلوها، وإذا وقع بأرض فلا تخرجوا منها"، إضافة إلى حث النبي -صلى الله عليه وسلم- من كان مريضا بمرض معد عدم الذهاب إلى المسجد حتى لا يتسبب بنقل العدوى لإخوانه المصلين، والأهم من ذلك ما يمتلكه الوضوء من أركان وسنن تحقق النظافة الشخصية.

والآن.. وقد توافرت أجهزة قياس درجة الحرارة التي تستخدم عند مداخل الأسواق، فما الذي يمنع من استخدامها عند دخول المسجد وقت الصلاة؟ خاصة إذا تم تحديد مساجد معينة حتى تستطيع الجهات المسؤولة السيطرة على الوضع.

ثم إن النقطة الأكثر أهمية من كل ما سبق، إذا كان الله قد تكفل بحفظ القرآن أربعة عشر قرنا وهو أمر في غاية الصعوبة: "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون"، أفلا يستطيع أن يتكفل بحماية المصلين خلال فترة الصلاة في بيت من بيوته؟!

قد يسأل سائل: إن فتح المساجد قد يؤدي إلى هرج ومرج وفقد التزام الناس بالحجر الصحي؟

هنا.. سيكون الرد سهلا وبسيطا، إذا كان فتح المساجد سيسبب ذلك فإن الاستمرار في إغلاقها سيؤدي بالضبط إلى ما ذكرته الآية الكريمة، من ظهور للمتشددين الذين لا يمتلكون القدر الكافي من العلم الديني، والذين سيفسرون إبقاء المساجد مغلقة صدًّا عن سبيل الله مصداقا لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق"، وسيعملون بكل ما يملكون من قوة على نشر الشائعات بين الناس والتي ستنجم عنها نتائج كارثية أخطر بملايين المرات من فتح المساجد. لذا؛ كان لا بد من منفذ صحي طبيعي يتولاه العلماء المخلصون في أمتنا العربية والإسلامية -وما أكثرهم- كي يعملوا في تنسيق كامل مع الجهات المسؤولة على نشر العلم الصحيح الذي به فقط نستطيع مواجهة أي فكر متطرف قد ينشأ -لا سمح الله- من استمرار إغلاق المساجد؛ وذلك بما يمتلك هؤلاء العلماء من علم شرعي واسع بعيد عن الأفكار المغلوطة، والتي قد تنتج التشدد. وسيُسهم هؤلاء العلماء كذلك في توحيد الناس وجمعهم خلف القيادة الحكيمة لحكومات دولنا العربية والإسلامية.

والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل.

تعليق عبر الفيس بوك