دروس الأزمات

د. صالح الفهدي

الأزمات.. ابتلاءاتٌ مَليئة بالعبر والعِظَات، لا يعيها إلا النبهاء الحكماء، ولا يغفل عنها إلا الجهلاء السفهاء، الأزمات محطات لا تختبر صبرَ الإنسان وإيمانه وقوته فحسب، بل هي في الحقيقة لتعيد تشكيل توجهاته، ومستقبله، وأفكاره؛ فمن يدرك ذلك يتجدد، ومن يستهتر يتبدد.

ودروس جائحة "كورونا" كثيرة؛ منها ما هو ظاهر لا يحتاج لفصيح لسانٍ، ومنها ما هو باطن يحتاج إلى واسع تبيان، ومن تلك الدروس ما نورده في الأسطر التالية:

تعلَّمنا أن سيادة الأمم مرهونة في اكتفائها بثلاثة عناصرٍ؛ هي: الغذاء، والكساء، والدواء؛ فالدول التي لا تأكل ما تزرع، ولا تلبس ما تنسج، ولا تصنع ما تداوي، ستضيق عليها الأزمات، وتشتد عليها الكربات، وقد تكون ممن أنعم الله عليها بوفرة الموارد لكنها اشتغلت بالكماليات، والتهت بالمترفات، حتى أفاقت في الأزمات على شدة حاجةٍ إلى طعام، وقصر يدٍ لكساء، وعسر حاجةٍ لدواء، أما الدول التي توافر لها الاكتفاء في غذاءٍ، وكساءٍ، ودواءٍ، فتلك دول غنية، إذ إن الغنى ليس وفرة المال، وإن اكتفاء الحال عن السؤال، يقول أبوفراس الحمداني:

إن الغني هو الغني بنفسه...

ولو أنه عاري المناكب، حاف

تعلَّمنا أن الانضباط هو أقوى الدروع في مواجهة الوباء؛ فالشعوب التي ارتفع فيها معدل الانضباط قل فيها مستوى الوباء، أما الشعوب التي أهملت الانضباط استخفافاً واستسهالاً فهي شعوب تتبع شهواتها، وتقفو أمزجتها، وحينها تصبح ضحيةً لهجمة الوباء، واستشراء البلاء. وهكذا يكون الانضباط هو الفيصل في الحياة -في كل جوانبها- لتحقيق الأهداف العليا، والغايات السامية في كل مسعى، ومنجز.

تعلَّمنا أن أخذ الأمور مأخذ الجدية في أولها خير من التساهل، ثم التشديد فيما بعد، فدرهم وقايةٍ خير من قنطار علاج، ونلحظ أن الدول التي اتخذت التدابير الاحترازية لانتشار الوباء هي التي قللت من آثاره رغم الخسائر التي تكبدتها، إلا أن الخسائر التي ستتكبدها في حال أنها تهاوت ستكون كارثيةً دون شك. وهنا تظهر قوة الدول، وسمات القيادة، وحكمة العقول، وحزم القرار.

تعلَّمنا أن إدارة الأزمات في كل حكومةٍ أمر لا يمكن إغفاله على الصعيد المؤسسي، وأن أية دولةٍ لا بد لها من جهةٍ تخصصية في إدارة الأزمات واستشراف المستقبل، قادرة على القراءة المستقبلية، والتنبؤ بسيرورة الأحداث، ثم وضع الخطط لاجتياز الكوارث، والأزمات أو التخفيف من آثارها.

تعلمنا أن الدول تلتفت إلى عقول أبنائها في الأزمات أكثر من ذي قبل -وكأنها التفتت إلى أعظم مواردها فجأةً-  لتحرك فيهم محفزات الابتكار من أجل الإسهام بقدراتهم الابتكارية من أجل الحصول على منتجٍ فريدٍ يسهم في معالجة جانب من جوانب الأزمة، أو التخفيف منها؛ الأمر الذي يعني أن الاهتمام بالمبتكرين وأصحاب الذكاءات الموهوبة يجب أن ينال العناية والاهتمام من جانب الحكومات لصقل المواهب، وإفساح المجال لها للتطوير والابتكار.

تعلمنا أن الإنفاق على البحوث العلمية ليس ترفاً، وإنما ضرورة قصوى، فالبحوث العلمية ليست مجرد دراساتٍ نظريةٍ، وأوراق علميةٍ، تدفن في الأدراج عند نهايتها، بل هي تجارب متواصلة، فقيمة الأفكار لا تعني شيئاً دون فاعليتها على أرضية الواقع، والدول التي تطورت وتقدمت أنفقت بسخاءٍ على البحوث العلمية، والابتكارات حتى حفزت بيئات الابتكار فيها مما أسهم في تقدمها في كثير من مناحي الحياة.

تعلمنا أنَّ تعاون الدول في الأزمات يخلق أعظم وأقوى الفرص لتوثيق العلاقات بينها، وأن أنانيتها وانكماشها على نفسها سيولد الضغائن والأحقاد التي ستبقى طويلاً لدى الأطراف الأخرى.

تعلمنا أن الاقتصاد ليس وفرة الموارد، وإنما العقليات التي تدير هذه الموارد بحكمةٍ وحنكةٍ؛ فالنبي يوسف -عليه السلام- أدار جائحة المجاعة بحنكةٍ اقتصادية في سنوات الخصب، فأتاح له ذلك التصرف الحذق إطعام الشعوب في السنين السبع العجاف أيضاً بحسن تدبير. وهذا يعني أن الدول تحتاج إلى عقلياتٍ كفوءةٍ تدير اقتصادياتها، وتنوع في مواردها، وتحررها من الاعتماد على مصدرٍ واحد ترهن به مصير أمتها، وسيادة دولتها.

تعلمنا أنَّ التعليم في مجتمعاتنا بحاجة لتغيير جذري، تعليم يتوافق مع مجريات الواقع، ومستجدات الأحداث، ومتقلبات الأمور، فيستطيع أن يتكيف مع ظروفها، ويفهم أسبابها، ويعي السبل الكفيلة بالتعامل معها.

تعلمنا أن الإيمان بالله هو أعظم عامل لتقوية المناعة في نفوسنا، والحصانة في أجسادنا، من الخوف والقلق والتداعي أمام الأزمات، فهذه العوامل النفسية إن ارتفع منسوبها في الأجسام تكالبت عليها الفيروسات من كلِّ حَدَبٍ وصوب، أما إنْ تحصَّن الإنسان بإيمانه بالله، ويقينه برحمة الله وحفظه فهو في ذمة الله وعنايته.

دُرُوس لا يعقلها إلا ذو العقول السديدة، ولا يعمل بها إلا أصحاب الإرادات الأكيدة، وهي بلا شك عظات ومحطات، تتوقف عندها الأمم لتراجع سياستها، وإداراتها، وشؤونها، فتصلح ما يتوجب إصلاحه، وتعيد ما يتوجب بناؤه.. وذلك عمل الأمم الأريبة بعد الأزمات والجوائح؛ أن تحيل المحن إلى سوانح، وأن تصغي الآذان إلى الدروس والنصائح، فتلك هي إشارات الرشد، والطريق الأصيل لبناء المجد.