عبد الله العليان
مُنذ عدة أيام، وفي ضوء جائحة كورونا (كوفيد 19)، قال السياسي الأمريكي المعروف د. هنري كيسنجر -في مقال له بصحيفة "وول ستريت جورنال" الأمريكية: "إن جائحة كورونا ستغيّر النظام العالمي للأبد".
ولاقى هذا المقال صدًى واسعاً في الأوساط السياسية والإسترتيجية في العالم، خاصة وأنَّ كيسنجر يعتبر من الإستراتيجيين الكبار في صناعة القرار السياسي الأمريكي منذ عدة عقود، وأنَّ هذا الوباء أحدث ارتباكاً شديداً، إلى حدِّ أنَّ القدرات الأمريكية نفسها أخفقت في الاستعداد الكافي للتقليل من آثاره حتى في الجانب الصحي، لتفادي مخاطر هذا الوباء الفتاك، والذي اعتبره كيسنجر بحق أنه سيكون له ما بعده، ويرى كيسنجر في هذا المقال هذه الحادثة: "أعادت إلى ذهنه المشاعر التي انتابته عندما كان جنديا في فرقة المشاة خلال مشاركته في الحرب العالمية الثانية أواخر عام 1944"، و"رغم أوجه الشبه بين تلك الحقبة البعيدة وما نعيشه اليوم، يقول كيسنجر، فإن هناك فرقا مهما يتمثل في كون قدرة الأمريكيين على التحمل في ذلك الوقت عززها السعي لتحقيق غاية وطنية عظمى، بينما تحتاج الولايات المتحدة في ظل الانقسام السياسي الذي تعيشه اليوم إلى حكومة تتحلى بالكفاءة وبُعد النظر للتغلب على العقبات غير المسبوقة من حيث الحجم والنطاق العالمي المترتبة على تفشي الوباء".
ولا شكَّ أنَّ ما قاله هذا السياسي والإستراتيجي الداهية، يعني أنَّ الأمر في هذه الأزمة ستكون آثاره هائلة، وقد يُنذر بمشكلات داخلية كبيرة، وربما حروب عالمية طاحنة لأسباب اقتصادية، وعبارة أن "جائحة كورونا ستغيّر النظام العالمي للأبد"، ليست كلمة عابرة، في ظل هذا التوتر والارتباك السياسي والصحي، والحراك السياسي توقف عالميًّا، ونشاط المؤسسات والشركات في أغلب المنشآت توقف أيضاً، إلى جانب منع التجوال، ونقص الاحتياجات الأساسية في بعض الدول، وكلها تطرح تساؤلات كبيرة: ماذا بعد؟ وكم من الوقت سيستمر الوضع على ما هو عليه؟ وهل كل البشر بقدرتهم تحمل هذه الكوارث الناجمة عن هذا المرض وآثاره؟
الحقيقة أنَّ ثمة اختباراً عسيراً يواجه المؤسسات السياسية في كل الدول، لاسيما في الدول الكبيرة التي حصد الوباء عددا كبيراً فيها، حيث واجهت الإخفاق، أقوى من الدول الصغيرة، أو ما يسمى افتراضاً بدول العالم الثالث.
الإشكالية أنَّ هذه الدول الرأسمالية الكبيرة، كانت تعطي اليقين في مقدرتها في كل سياساتها ومخططاتها -كالتي قالها كارل ماركس في كتاب "رأس المال" وسماها بـ"الحتمية التاريخية"- وهذه مجازفة خطيرة؛ مما جعل قدرتها على مواجهة وباء كورونا تتضاءل إلى مستوى لا يتقارب مع ما كانوا يعتقدونه من إمكانيات ومعطيات كبيرة، لكن هذه النازلة الوبائية، كشفت خللاً كبيراً في كل إستراتيجياتهم التي كانوا يتفاخرون بها، عدت اليوم من اليقينيات.
لقد لفت نظري منذ فترة كتابًا ضمَّ العديد من الباحثين الغربيين، وحمل عنوان "إعادة النظر في المستقبل"؛ فكان أحد الباحثين في هذا الكتاب -وهو تشارلز هاندي- وكان بعنوان فرعي: "إيجاد معنى في عدم اليقين"، يقول إنَّ هناك أسبابًا "وراء حدوث أشياء بعينها. غير أنَّ هناك فجوات في الأسباب؛ بحيث يمكنكم التفريق في طرق تغيير الأشياء، وهو ما أجده مُثيرا جدًّا في وسط كل هذا الغموض، حتى الفوضى المحيطة بنا؛ وذلك لأنها تعني أن المستقبل ليس قدراً محتوماً تماماً، وحتى في العلوم الإنسانية هي ليست قدرا محتوماً أيضاً، مما يعني أن خفقة واحدة من خفقات جناحي فراشة، أو حتى قيامها بشئ ما، يمكنها أن تحدث تغييراً ولو بسيطاً في العالم".
فالحياة الإنسانية المعاصرة مليئة بالمفاجآت والتغيرات في كل أنماط الحياة، فاليقين الذي انطلق من خلال السهو والشعور بالقمة والقدرات العلمية والتكنولوجية في عصرنا الراهن، خاصة من الدول المؤثرة دوليًّا، قد لا تعطي مؤثرا بإحاطتها بكل ما سيجري من تحولات وكم تغيرات، التي قد تكون معرفتها من الغيب، وهذا جعل وباء كورونا يقلب الطاولة على أصحابها -كما يقولون- وهم الذين كانوا يدعون أنهم يرصدون كل ما يجري في هذا العصر رؤى علمية وتكنولوجية، لذلك فإنَّ المقولات التي تدعي أن الأمور محسومة، وكل التحركات مرصودة، أثبتت فشلها، ولم يعد لكل سؤال جواب، فأصبح لكل سؤال إجابة مرتبكة ومشوشة بحسب ما يحدث، وهذا ما يعني أن العالم يسير في طرق جديدة، لا يُعرف مسارها، ولا حتى نهايتها، وهذا ما يجعل التكهنات تزاد ارتباكاً وغموضاً.
فاللهاث وراء المال والأعمال، والتنكر للقيم الخلقية، وغياب العدالة الإنسانية للكثير من الشعوب، وتدمير البيئة، وغيرها الكثير من الفطرة السليمة للحياة، أسهمت بلا شك فيما نعيشه الآن، قد يقول قائل: ما دخل وباء كورونا بما ذكرته؟ لكن هذا السؤال يجعل الجواب بديهيًّا نعيشه حتى في أيامنا هذه، وهو أنَّ الحياة الإنسانية، لا تختلف عن بقية الكائنات في مملكة الحيوان، فلماذا تنتحر الأسماك بالآلاف في البحر؟ ولماذا الجراد يتجمَّع مثل الفرق العسكرية، ويهجم على المزارع والثمار فيها؟ وهناك الكثير من التأثيرات التي تحصل في الحياة المعاصرة ليس مجالنا سردها، وهذه تقع بسبب سلبيات الإنسان وظلمه وقهره وغروره؛ لذلك فالأسباب بعضها يُعرف، وبعضها الآخر يبقى ضمن أسرار الحياة وتقلباتها، من هنا فهذه النازلة لا بد أن تكون لها ما بعدها، لأنه لم يسبق أن حدث مثل هذا في كل القرون الماضية بهذا الانتشار، منذ ما قبل التاريخ، صحيح أن الأوبئة، مرت في أزمنة غابرة، لكنها كانت محدودة التأثير في بلد ما أو قارة لوحدها، ولم تنتشر في كل القارات كما يحصل الآن، ولم يأت الخوف والجزع، إلى حد عدم الخروج إلى الشوارع، فالأمر يعد أخطر ما جرى للبشرية؛ لذلك لها ما بعدها لا شك، وهذا في علم الغيب.
ولله الأمر من قبل ومن بعد...،