نجلد ذاتنا وعوار غيرنا ظاهر لنا

المكرم الدكتور إسماعيل بن صالح الأغبري

اعتادَت الشعوب والأمم -بمن فيهم المنظور إليهم، والمثقفون في العالم الثالث أو الموصوف بالنامي، ومنه العالم العربي- إشباع بلدانهم ورموز دولهم نقدًا لاذعًا، ووصفا لدولهم بالإغراق في وَحل التخلف واستمراء الإخفاقات، وعدم القدرة على مُواجهة الطارئ؛ فهي دول تعيش لحظتها، ولا تفكر حتى في الساعات القادمة، فضلا عن عقد من السنين.

اعتدنَا في عالمنا العربي نسبة كل مَنقصة إلى عالمنا، وسلب كل فضيلة عنه، وإضافة كل منقصة إليه، ونفي كل محمدة عنه.

المثقفون والمشتغلون بالسياسة وعموم الناس في دولنا العربية أوَّل ما يُسيطر على أذهانهم المقارنات بين دولهم ودول العالم الصناعي المتقدم (المجد المستعد الجاهز لكل حدث، المتمكن من علاج كل مشكلة)؛ فلا تسمع إلا عن العالم الصناعي إلا وكأنه جنة الخلد والملك الذي لا يبلى قد أحاط بكل شيء علما.

تسمعُ في كلِّ سبلة ومحفل ومجمع ومنتدى عبارات لو كُنا في الغرب لما وقع هذا، ولو كنا من دول الغرب لما عجزنا عن كذا، ولو توجد محاسبة لما كان من إهمال، ولو كان من ضمير لما بلغنا هذا المبلغ، ولو وجد الساسة والزعماء محاسبة من الشعب كحال الغرب لما تعثرنا... إلى آخر ما يدلُّ على التسليم بكل شيء للعالم الصناعي والنظرة السلبية السوداء القاتمة لدولنا.

يتهم كثير في عالمنا العربي دولهم بعدم الإفصاح عن الحقائق، بينما يضربون بشفافية العالم المتقدم، وأنه لا يجرؤ أحد على عدم الصراحة، وإذ بوباء كورونا يكشف لنا تراشقا بين الدول المتقدمة حول عدم الشفافية من حيث عدد المصابين وعدد الأموات، وأسباب تفشي المرض، والمدن التي أصابها في مقتل، وما التراشق بين الصين وأمريكا إلا مثال حي مشاهَد.

يُسارع كثيرٌ في عالمنا إلى اتهام دولهم بالاستهتار وعدم المبالاة بالمواطن، وأنَّ ذلك عائد إلى استهانة السياسي بحياة الناس أو قطيع الشعب، ولكن وباء كورونا أظهر في بريطانيا ردة فعل قوية من عموم الشعب والأطباء لمقترح رئيس الوزراء جونسون حول مناعة القطيع؛ أي ترك المرض يصيب من يشاء فينتج عنه مناعة من بقي حيا فتراجع عن ذلك لاحتمال موت مئتين وخمسين ألف بريطاني بسبب مقترحه.

وأمريكا قبلة العالم ورائدة الحضارة ومراد كل حالم كشف فيروس كورونا عن عدم اتخاذ خطوات جدية لمنع انتشار الفيروس في بداية ظهوره؛ فقد ضرب الصين شهر ديسمبر 2019، ومع ذلك لم يجد اهتماما في أمريكا إلا شهر مارس 2020، بل صرح الساسة في أمريكا في البداية بأنه مرض عارض كحالة رشح وزكام لأيام ثم تتوارى، فلما صار يحصد كجرافة لا تبقِي ولا تذر كان الاهتمام.

يُشبِّه كثير منا دولنا وكأنها مركز كل فشل وموئل كل تخبط، بينما الغرب كأنه جندي يقظ مستعد متحفز، لكن فيروس كورونا ينبغي أن يكون دافعا لمن يجلد يوميا بلاده نقدا لاذعا ومعجبا بالغرب، حتى كأنه إله مستحق بإفراد العبودية له، ولا يعجزه شيء وقد أعد لكل شيء أن يعيد النظر.

أمريكا ذاتها تفتقرُ للبسيط مما تحتاجه المشافي من المعقمات والواقيات والقفازات، حتى بلغ بالطبيب والممرض أن يلبس أكياس قمامة، وفي الهند الصاعدة يلبسون معاطف واقيات المطر.

صراع في العالم المتقدِّم بعد شح شديد على المعقمات والقفازات وشحنات أجهزة التنفس، ولو بالمزايدة على المبالغ، ولو باعتراض السفن المحملة، وهذا أمر أشبه بالقرصنة والاستيلاء على حقوق الآخر.

كثير ما يتحدث الناس في السبلة والمنتدى والملتقى والمجمع والنادي عن العالم الآخر من حيث التضامن والتعاضد، وأن تكتلاتهم وحدة واحدة، وأنهم اليد الواحدة، بينما تجمعات العالم العربي هدير وزفير ومجرد زئير، وإذ بالضيف الثقيل كورونا يكشف عوارا في العالم والاتحاد الأوروبي؛ إذ لم تجد إيطاليا وإسبانيا معينا ومغيثا ومخلصا ومنقذا وممدا لها بالأطباء والمعقمات إلا الخصم العنيد اللدود الصين وروسيا، وصار الناس في إيطاليا ينزلون علم الاتحاد الأوروبي ويستبدلونه بعلم الصين.

في عالمنا العربي، نجلد عالمنا ودولنا حتى الإدماء، وكثيرا ما نردد أننا أصحاب منظومة صحية متهالكة عديمة الفائدة، وأنَّ الغرب راق متكامل جاهز مستعد، لكنَّ فيروس كورونا كشف لنا أن دول العالم المتقدم حالها أقرب إلى دول العالم النامي؛ فهي فقط مشتغلة بالترسانة النووية والتصنيع الحربي للفتك ببني آدم، وسباقها ضج منه الكوكب والفضاء، وأن هناك فقرا في منظوماتها الصحية، وأنه لم ينتبه إليها أحد، وكان كورونا هو الجرس المنبِّه.

يحلو لكثير منا اتهام دولنا بالادعاء، وأنَّ المسؤولين في عالمنا يزعمون غير الحقيقة، وأنه في الغرب والعالم المتقدم لا يجرؤ سياسي أو متخصص على إطلاق ما ليس بحقيقة؛ لأنَّ الشعب سوف يحاسبه ويتعرض للمساءلة، إلا أنَّ الفيروس كشف عن خطأ جلد بعضنا لدولنا، وخطأ تقديس غيرنا، فها هم المسؤولون في تلك الدول يصرحون بأن الدواء تم اكتشافه، وخلال أيام وليس أشهر، ثم تستفحل العدوى، فيعودون عما قالوا، ويقولون اكتشفنا علاجا وسنبدأ تفعيله لاحقا، ثم يتراجعون ويصرحون بأنه لا يوجد حتى الساعة من علاج.

وساسة آخرون يجترون أدوية سارس والحمى وإنفلونزا الخنازير والطيور، فيقولون أدوية تلك الأمراض هي ذاتها أدوية كورونا، ثم يتراجعون، ولا حساب ولا مساءلة؛ فكم نحن نظلم عندما ننسب إلى دولنا كل منقصة وننسب إلى غيرنا كل محمدة.

وخلاصة القول.. ينبغي أن نُعيد النظر في جلد دولنا والإعجاب بغيرنا وكأنه أم المناقب والمحامد، ودولنا كأنها أم النقائص والرذائل.

ثبت أنَّ نظام المراقبة والمحاسبة على تصريحات الساسة هو نسبي وليس بصواب أن تصريحات ساسة العالم المتقدم محسوبة، وإلا فإن الشعب سيشهر سيف السؤال.

الاختلافات في الاتحاد الأوروبي ذاته وبينه وبين الحليف الأمريكي لا تختلف عن الخلافات في دول مجلس التعاون الخليجي وفي الجامعة العربية ومنظمة التعاون الإسلامي إلا في مواضع.

الدرجة التكاملية المنشودة في التجمُّعات في العالم العربي مفقودة، وكذلك في العالم الغربي؛ فلماذا نجلد ذاتنا جلدا داميا، ونتخذ غيرنا سبيلا لنا رغم بيان الخلل والعوار؟!!

اعتاد عددٌ منا على التشكيك في كل قول أو فعل صادر في ومن دولنا، وغالبا ما تكون الثقة عمياء مطلقة في العالم المتقدم؛ فلعل فيروس كورونا أبان لنا أن ظنوننا خاطئة خاطئة خاطئة.

والأمر المهم أنَّ فيروس كورونا كشف لنا غياب إنسانية الإنسان، وأنَّ قيمته بقدر ما ينتج، فإن كان شابا مقبلا على الحياة يخدم الدولة فهو الأحق بالحياة والأولى بالعناية، أما كبير السن فهو عبء على الاقتصاد ثقيل على الدولة، موته أولى من حياته، وليس هو الحقيق بجهاز التنفس الصناعي، بينما الإسلام يكرم الإنسان لإنسانيته، وليس لمقدار إنتاجه وخدماته؛ فمن هنا حرم المفاضلة بين كبير السن والطفل الرضيع العاجز وبين الشاب الفتي بناء على مقدار الانتاج؛ فالحياة في الإسلام حق للجميع أنتج الحي أو عجز.

لذلك؛ في الإسلام الدية لا تتفاضل؛ سواء اكان طفلا وُلِد اليوم، أو شابا منتجا يافعا، أو كهلا صار عاجزا؛ فالدية واحدة ولا فرق بين شخص عامل أو مزارع وبين دية وزير أو رئيس وزراء؛ لأن المقام في الإسلام مقام عظمة الإنسانية، وليس مقام مناصب ومقدار إنتاج.

كشف لنا فيروس كورونا الخطأ الفادح من جلدنا لدولنا حتى الإدماء، ومن خطأ التصورات والإعجاب المطلق بقامات الغرب ومؤسساته ومنظوماته الصحية والاجتماعية، وتكتلاته السياسية والاقتصادية.

الأطباء والممرضون والمؤسسات والإعلام يجمعون على أن لا وسيلة للتقليل من سرعة انتشار الفيروس إلا النظافة، خاصة غسل اليدين، والإسلام يؤكد لنا النظافة من الإيمان، ونظفوا أفنيتكم وتنظفوا، وغسل اليدين من سُنة النبي عند الاستيقاظ من النوم، وعند إرادة الأكل، والفراغ من الأكل، وعند لمس مشكوك فيه.

الإسلام يتَّسق تماما مع دعوة العالم إلى النظافة وغسل اليدين؛ فهو يأمر بالنظافة العامة في الأماكن العامة؛ فنهى عن قضاء الحاجة في مساقط الثمار، وفي مجاري الأودية والأنهار، ونهى عن البول في الماء الراكد.

الإسلام دعا للنظافة الخاصة؛ فهو طهارة من الأحداث الصغرى والكبرى، ومن باب تعميق النظافة علق قبول كثير من العبادات على وجود النظافة.

وختاما.. قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يده، فإنه لا يدري أين باتت"، فلننطر ما هو موجب الغسل؟ إنه عدم معرفة أين وقعت اليد وهو غافل، وعلى هذا فهذا إعجاز؛ لأن الدعوة اليوم إلى غسل اليدين بالماء والصابون مَخَافة مُلامَسة أحد، ومخافة وقوعها في أرفف أو أسطح السيارات والمحلات التجارية ومفاتيح المصاعد والسلالم، ومخافة ملامسة أكياس تحمل فيروسا؛ لذا فدعوة الإسلام تتسق مع دعوة المؤسسات الصحية من التزام النظافة وغسل اليدين بالماء والصابون في أوقات متقاربة.