إسطنبول.. الذكريات والمدينة

 

 

 

يوسف عوض العازمي

alzmi1969@

 

 

"أحب أمسيات نهاية الخريف وبداية الشتاء، حين تهز الرياح الشمالية الأشجار الجرداء، ويندفع الناس فى السترات والمعاطف السوداء" - أورهان باموق

--------------

الأدب في تركيا الحديثة له جذور عميقة، خاصة عندما نتوقف أمام الثقافة والفنون والآداب لهذه الأمة العريقة التي حكمت العالم الإسلامي لعدة قرون، وقرأت مرة أنه "يعود تاريخ ظهور الأدب التركي إلى ما قبل القرن الثامن ميلادي، وذلك استناداً لـ"نقوش أورخان" التي عُثِر عليها قرب وادي نهر أورخون وسط منغوليا، وقد مر هذا الأدب بعدة عصور شكّلت ماهية الأدب التركي الحالي" *

وكان إلغاء الحروف العربية وإحلال اللآتينية مكانها عام 1928م، هو أخطر ما طرأ على الأدب التركي والثقافة بشكل عام في بلاد الأناضول، وبعد هذا التغيير بدأت الثقافة والآداب في تركيا الجديدة تأخذ منحنًى "داخليا وقوميا"، بأفكار خاصة، مُنغلقة على الجانب القومي، متأثرة بالتغييرات السياسية الجذرية التي حولت البلاد من وضع إلى وضع آخر، في انقلاب على كل المفاهيم والقواعد، وبعد هذه المرحلة المفصلية من تاريخ تركيا الحديث، ظهر عدة أدباء وروائيين لعل أشهرهم الروائي "أورهان باموق" الحائز على جائزة نوبل للآداب عام 2006م، وتعد مؤلفاته علامة فارقة في تاريخ الأدب التركي.

قرأتُ كتاب "أورهان باموق" المعنون "إسطنبول.. الذكريات والمدينة"، وكان يتملَّكني الشغف لقراءة الكتاب لما يتمتع المؤلف من سمعة عالمية براقة، وقرأت الكثير عن المؤلف، وللأمانة جل المقروء إشادة ومدح، وقرأت له مقتطفات من روايات مختلفة منها رواية "ثلج".

ثم قرأت الكتاب "إسطنبول. الذكريات والمدينة"، الذي يُصنفه البعض أو الكثير كرواية، ووجدت أنه مقالات طويلة تم تجميعها ووضعها ككتاب، ولا يضر هذا الأمر لأن كثيرًا من الكتاب يستخدمون مثل هذا النوع من "التوضيب"، الذي قد يكون أحيانا فيه ترتيب لأفكار الكاتب، وحتى ترتيب لذائقة القراءة للقارئ.

يضم الكتاب ذكريات يكتبها بشكل مباشر متوشحة بالحس الأدبي المميز، كأنَّه شخص يجلس بجانبك ويقصص عليك؛ مما استوقفني أنه في بعض المواقف بالكتاب أنَّ الكاتب يستخدم العبارات التي تثير الجدل والمتركزة حول الثالوث المحرم؛ إذ يتحدث ويلمح تلميحات لعدة مواقف رغم أن التلميح العابر كان يكفي كأداة توصيل بشكل أدبي يستفز القارئ بطريقة ذكية، لكنه اعتمد المباشرة!

الكتاب أو الرواية -سمِّه ما شئت- يحتوي عدة مفاهيم وملمات نفسية وإنسانية أكثر منها فكرية، ومنها هذه الملامح: "كان ذلك حتى وأنا طفل، يجعلنى أعرف أن حضارة عظيمة قامت هنا، ومما قالوه لى: كان هناك أناس يشبهوننا عاشوا في زمان ما حياه مختلفه تماما عن حياتنا، وقد تركونا نحن الذين أتينا من بعدهم نشعر بـأننا أفقر وأضعف وأضيق أفقا".

باموق يستخلص مشاعر الأزقة الضيقة والمسافات الواسعة ما بين فترة أفول الدولة العثمانية وبروز دولة أتاتورك، يسترسل بإرهاصات التحول معاني التناقض بين الماضي والحاضر، يستلهم مخاضات التبدل والتغيير؛ إذ في نفس المكان والزمان والإنسان نفسه تتبدل معايير، وتتغير مسارات، عهد هوى بعد مرض، وعهد انضوى بعد ارتجاج، ويعيد باموق مشاعر الماره في الشارع، وكيف أن الكثير لم يعد يهمه الأمر، وكأن التغيير لا يخُصه، والتاريخ وتبدلاته لم تُؤثر، يصور لنا باموق وكأن المارة (ضمنيا) أصبحوا يتلقون الصدمات الحضارية، ولم يعد يهمهم سوى لقمة عيش وصحة بدن وأمان في بيت!

في الحقيقة.. عندما تقرأ العنوان "الذكريات والمدينة"؛ فهو يقصد ذكرياته هو ومدينته هو، إسطنبول باموق وليس إسطنبول البقية، هو يكتب ذكرياته ويلبسها لباسا إسطنبوليا فاخرا، مزركش بالشتاء والثلج، ويتحدث بعفوية شديدة؛ إذ تشعر وأنت تقرأ الكتاب، أنك تقرأ رسالة واتساب أرسلها لك، كأنه يخاطب القارئ مباشرة، وأعتقد هذا هو سبب تميز باموق، ونمو الرغبة عند الناس في تذوق وليس فقط قراءة مؤلفاته!

بعض من ذكرياته شابها الصدق الشديد، والتجسيد المباشر للموقف، وذكر التفاصيل قبل الخطوط العريضة، مع أن كثيرًا من التفاصيل ممكن بحبكة معينة وضعها بين السطور وتركها لذكاء القارئ، لكنه باشر وتحدث بشراهة، وأعتقد أنه لم يكن مصيبا في ذلك، ففي بعض المواقف ليس كل ما يُعرف يُقال، هناك تفاصيل تبقى مفهومة لا داعي للانغماس أكثر بتفاصيلها، هذا يهدد البناء الروائي ولا يخدمه.

الكتاب ومؤلفه الشهير لا يكفيهما مقال، ولا حتى بحث، بل عدة كتب، وهو كتاب فيه من السيرة الذاتية، والفكر، المكتوبين بلغة متدرجة الهدوء، ولهجة تَلمَح بها حرارة الكلمات، وسخونة الأجواء النفسية التي واكبت باموق في إسطنبول وشوارعها وحاراتها العتيقة.

 

* موقع ترك برس - بقلم الكاتب أسامة حساني