جائحة كورونا والنظام العالمي الجديد

 

علي بن مسعود المعشني

Ali95312606@gmail.com

جائحة كورونا ليست كسابقاتها من أوبئة وأمراض عرفها العالم في تاريخه، بل هي حدث تاريخي مفصلي جعل العالم برمته شعوبًا وجغرافيا مسرحًا له وضحايا له، كورونا أختبر جميع النُّظم الصحية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية والقيمية للعالم المعاصر وجعلها على محك التقييم والفصل والفرز معًا، الأمر الذي يُعد بالنسبة لقراء التاريخ وسير الدول والحضارات إعادة تشكيل العالم مُجددًا، وإعادة النظر في الكثير من الموروث القيمي والفكري الإنساني المعاصر ووضعه على طاولة البحث وتحت مشرط التشريح والجراحة. أكثر الأقطار والجغرافيات تضررًا وعرضة للمراجعات الحادة والجذرية ستكون الساحتين الأوروبية والأمريكية، تلك الساحات التي طالما سوقت نفسها كنموذج أعلى وقصي للبشرية المعاصرة، وأنَّها النهاية الحتمية للتاريخ، وكيسوع المخلص للبشرية من آلامها. لا شك أنَّ الغرب اليوم في مرحلة فرز عظيمة، وسيشهد بعد أن تضع جائحة كورونا أوزارها حروباً كثيرة من أنواع أخرى غير مألوفة وعلى أكثر من جبهة وصعيد.

فجائحة كورونا لم تظهر عوار المنظومة الصحية وهشاشتها في الغرب فحسب بل على السطح حقيقة قيم الديمقراطية الغربية والحريات والمساواة ومفاهيم التحالفات وصدقيتها في هكذا ظروف، بل ومدى صدقية معتقد الغربي بصواب منهجه وخطايا خصومه ومناوئيه والصور النمطية المُعلبة التي ألصقت في عقله وشكلت نظرته للعالم من حوله، بتعدد ثقافاته وأديانه ومناهج حكمه وسياساته التنموية وعقائده السياسية والفكرية. فيما مضى من الزمن كانت الحروب والصراعات المُسلحة على المنافع والمصالح هي من تشكل التكتلات والأحلاف وتفرز الخصوم والأعداء والأصدقاء، أما اليوم ففيروس ككورونا هو من سيصنع ويحدد هوية العالم القادم ويرسم ملامح صراعاته ومنافعه ومفاهيم الخصومات والالتقاء بين البشر كونه جائحة كونية.

شمولية جائحة كورونا للعالم بأسره برهنت مدى حاجة البشر إلى مفاهيم كونية جامعة في لحظات مفصلية في التاريخ، وبرهنت أنَّ مصير العالم في لحظة تاريخية مفصلية لايمكن تجزئته على أسس تقليدية ونظريات مُعلبة ولا على مقاس صور نمطية لا تقبل الشك أو المراجعة.

حلفاء الحرب الأوروبية الثانية (العالمية) هم أنفسهم من قرروا ذات لحظة إيقاظ عنصر الصراع وفلسفته من أجل التطور والبقاء، فاختلقوا الحرب الكورية في خمسينيات القرن الفارط، والتي تشكل بموجبها العالم إلى قطبين وكتلتين، شرقية اشتراكية وغربية رأسمالية وكان ماعُرف بالحرب الباردة من ثمار تلك التجربة.

قبل مجيء جائحة كورونا، كان العالم يُراهن وإلى وقت قريب على أن الاقتصاد وحده هو من سيقود عنصر نظرية الصراع العالمي القادم وتتشكل بفضله القطبية المتعددة في العالم، قطبية تقودها الصين وروسيا ومجموعة بريكس من ناحية، مُقابل مجموعة تقليدية تقودها أمريكا والاتحاد الأوروبي.

أما اليوم وفي ظل كورونا ومابعده فالاقتصاد سيكون مجرد أداة في منظومة عالمية قادمة تُشكل النظام العالمي الجديد، هذا النظام الذي لن يتشكل في ليلة وضحاها بلا شك ولكنه سيسارع في مخاض العالم وينضج قناعاته نحو التسريع بخلق عالم جديد أكثر إنسانية وانفتاحًا وشفافية وتعاون، عالم تتراجع فيه الخيارات العنفية والحروب المسلحة وتزكى فيه حروب التنافسية على التفوق العلمي والاقتصادي، حروب تتسابق فيها البشرية على معرفة الآخر بلا وسيط، والتصالح مع الذات الكبرى، ومفاهيم علمية وعقلانية للوطنية ومصلحة الوطن دون الحاجة لإقصاء الآخر أو القضاء عليه، عالم جديد يتخطى العولمة بنسختها الغربية الشوفينية ويمتد إلى عولمة إنسانية حقيقية لا تلغي الصراع وفلسفته ولكنها تقننه وتهذبه وتؤنسنه.

قبل اللقاء: يقول الزعيم الصيني ماوتسي تونج: هناك دائمًا حركات صغيرة غير مرئية في التاريخ غالبًا ما تكون سببًا في تغيير مجراه.

وبالشكر تدوم النعم