ضو البيت (بندر شاه).. تعدد السارد والرؤى (2-2)

محمد علي العوض

يصفُ الطيب صالح ثنائية "ضو البيت ومريود بندر شاه" بأنّها أفضل أعماله، وأنّها كتب بتقنية "الواقعية السحرية" ويقول: إنني منذ بدأت الكتابة وأنا أسير في هذا الاتجاه، الآن يتكلمون عن الواقعية السحرية وما إلى ذلك، لكنّي سرت من قبل في هذا الاتجاه. وهو للأمانة لم أبتدعه؛ لأنّه موجود في بيئتنا.. ولعلني لذلك أخذت أناسا عاديين أمثال سعيد عشا البايتات، ومحجوب، وعبدالحفيظ والطاهر ود الرواسي، وحاولت أن أضعهم في إطار أسطوري (ميثولوجي)، رغم أنَّهم مزارعون عاديون. لذلك تجدني أقول إنَّ أهم عمل أنجزته حتى الآن على علاته هو رواية (بندر شاه) هذا أهم عمل بالنسبة إليّ، رغم أنّه لم يكتمل فقد أصدرت جزءين من هذه الرواية: مريود، وضو البيت، وأتمنى أن أكمل هذا العمل.

ويُضيف أنَّه في هذه الرواية تناول البيئة وعادات النّاس الذين يعيشون بداخلها، وسعى لاستكشاف علاقات البشر بعضهم بعضا من خلال الجانب الغامض في حياة الناس الذي تمثله السلطة. فمحجوب مثلا في الرواية كان هو رئيس البلد، وإذا حسبت البلد بحساب القوى الحقيقية تجدها ليست مهمة، لكن محجوب كان يرمز أيضًا إلى حاكم الدولة.. يقول الطيب صالح: لاحظت أنّ كتاب أمريكا اللاتينية، خاصة غابريل غارثيا ماركيز شغلهم كثيرًا موضوع السلطة؛ خاصة ماركيز في رواية "مائة عام من العزلة" لكن أعتقد أنّ السلطة كانت تشغلهم تاريخيا وليس أسطوريا.

ويتابع القول: حاولت شخصيا، في حدود أضيق بكثير أن أوسع الموضوع مع تضخيم للشخصيات الروائية؛ لذلك خلقت أسطورة بندر شاه، "بندر" ترمز إلى المدينة، و"شاه" للملك، وهذه الرواية كان يمكن أن تُسمى (الملك والمدينة) مثلا، وهي عبارة عن وعاء حاولت أن أصب فيه كل هذه الحكاية.

ويتوغَّل الطيب صالح في التفضيل والتخصيص أكثر ويقول: "وأفضل عمل بالنسبة إليّ هو الفصل الأخير من ضو البيت، حين يظهر الرجل الغريب الذي أطلق عليه أهل البلد "ضو البيت" ويختفي.. هنا بالضبط خلقت منه أسطورة ورمزا. وهذا الرمز يتكوّن تدريجيا لأنّه شخص غريب جاء إلى البلدة وأطلق عليه أهلها اسم "ضو البيت" ثمّ أدخلوه الإسلام، وتمّ ختانه، وقرروا أن يزوّجوه؛ ثم بعد ذلك يذوب كما الوهم".

وفي كتابه "العالم الروائي للطيب صالح"، يُورِد الناقد الكويتي فهد الهندال أنَّ رواية "بندر شاه" تتميز بتعدد الساردين، حيث اعتمد الكاتب فيها على مشاركة عدد من شخصياتها في عملية السرد، مركزا أكثر على شخصية محورية هي شخصية محيميد، إضافة لسارد خارج النص يقوم بسرد ما يسكت عنه الساردون. ويرى أنّ رواية "بندر شاه" قريبة نوعا ما في استخدامه تقنية السارد من رواية موسم الهجرة إلى الشمال؛ لاعتمادها على وجود سارد أصلي وعدة ساردين فرعيين، يعلو صوت الشخصية المحورية محيميد بينهم بصورة واضحة.

السارد في "ضو البيت"، وعلى الرغم من موقعه الخارجي المعتمد على تقنية الاسترجاع والرجوع للماضي، إلا أنه في بعض الأحداث يظهر كأنه عليم بكل ما يدور داخل الرواية وأحداثها وملم ببواطن الشخصيات وتعبيراتها؛ ومثال على ذلك وصف محيميد لشخصية الطريفي ود بكري: "لم يكن في الوجه شيء يلفت النظر، ما عدا العينين الضيقتين الزكيتين، وتلك الابتسامة الساخرة في ركن الفم الأيسر، تحدث تناقضًا بين ما يقوله وما يعنيه. كان أيضًا شيء آخر؛ ذلك الشيء الذي تسبغه السلطة على من في يدهم السلطة؛ مزيج من الإقدام والخوف والبذل والطمع والترقب والتماسك والصدق والكذب. كأنك إزاء ممثل يؤدي دورا... كان الطريفي مدركا تمام الإدراك طبيعة الدور الذي يؤديه".

وفي أحايين أخرى، يظهر السارد كأنّه متوسط المعرفة بالشخصيات والأحداث، فيستعين بعدد من الساردين الآخرين، ويسنِّمهم مسؤولية الحكي كي لا ينقطع خيط السرد. وقد توزَّعت أدوارهم في النص، وكان كل واحد منهم ينقل رؤيته للحدث بحسب حضوره ومكانه وقتها. وجعل الكاتب من السارد الأصلي حلقة وصل بين جميع الساردين وتربط فصول الرواية، وكلما يسكت سارد ما من احد الساردين المتعددين يتدخل السارد الأصلي في الحكي ليحافظ على سيرورة الحكاية، وكلا الكاتب والسارد الأصلي خصَّا "محيميد" بالحضور الأعظم في الرواية؛ باعتباره شخصية محوريّة؛ فخيط السرد بدأ به حين وصف محجوب: "كان محجوب مثل نمر هرم، جالسا جلسته القديمة رغم السنين والعلة، أبدًا كأنه يتحفز للوثوب، معتمدا بيديه على عصاه، وذقنه على يديه، متلفِّعا ثوبه على رأسه فوق "العمامة...". وحظي محيميد بعد السارد الأصلي بالنسبة الأكبر بين الساردين جميعا، وكانا يتناوبان على السرد أغلب الوقت؛ فحين يصمُت السارد الأصلي يتحدث محيميد، وحين يتحدث السارد الأصلي يصمت محيميد.

كما يتداخل صوت السارد الأصلي مع محيميد في لحظات شروده وانفصاله عن الواقع؛ فحين سمع محيميد صوتا يناديه التفت إليه وقال "نعم"، ليتعجب ود الرواسي ويسأله: "ترد على مَن؟"، ليدرك بعدها محيميد أنّه كان سارحا في حلم، وأنّه استجاب لنداء متخيّل لم يوجهه إليه أحد.

ففي مشهد السُّجود، انفصل محيميد عن الواقع، وصمت عن الحكي، ليتدخل السارد الأصلي مصورا تلك اللحظة: "وأحس محيميد أنَّه يغرق، ورأى فوق خط الأفق الشخص الذي كان جالسا في صدر القاعة كما كان تلك الليلة"، ولم يفصل "محيميد عن هذا التخيل والإحساس إلا تدخل عبدالحفيظ". وهنا قال السارد: "استيقظ محيميد على صوت عبدالحفيظ وهو يقول: "استغفِر، استغفِر الله"؛ فوجد نفسه ساجدًا يحس بألم في جبهته ووجهه مبلل بالدموع".

أدَّى السارد في "ضو البيت" وظائفه السردية الأربعة كالوظيفة السردية التي قام بها هو ومحيميد وبقية الشخصيات على مستويات القصة، والوظيفة التواصلية مع القارئ، وكذلك الوظيفة الانفعالية عندما يصوِّر محيميد وهو داخل عالم الخيال، بجانب الوظيفة الأيديولوجية التي تظهر في شكل خطابات وجمل سردية على لسان الشخصيات؛ ومنها مثلا: الخطاب السياسي على لسان ود الرواسي حينما قال ساخرا من إمام المسجد: ".. وحتى خطبة الجمعة إيَّاها الكلمتين. اللهم انصر المسلمين واحفظ أمير المؤمنين. وين أمير المؤمنين دا عاوزين نعرف؟".