حقائق كشف عنها انتشار كورونا

 

عبيدلي العبيدلي

على نحو مُباغت، ودون سابق إنذار، اجتاح العالم وباء ما عرف باسم "كورونا". ورافق ذلك مجموعة من السلوكيات التي تجاوزت الحدود السياسية، وشكلت ما يشبه ظاهرة عالمية، رغم الاختلافات في بعض تفاصيلها: أول تلك الظواهر كان هوس الأرقام، ومتابعة تكاثرها، رغم سرعة وتيرة ذلك التكاثر، حيث تسمَّرت أعين العالم على إحصاءات ضحايا "الكورونا"، من إصابات بلغت مئات الآلاف من البشر، ولا تزال في تصاعد مستمر، وما نتج عنها من وفيات تكاد تلامس العشرة آلاف، وحالات شفاء تجاوزت نسبتها 94% من تلك الإصابات.. اللافت هنا هو انتقال المتابعة من الدائرة المحلية، إلى تلك العالمية.

على نحو موازٍ، استحضر العالم، وبشكل عفوي، تاريخ موجات تفشي الأوبئة التي عرفها العالم بشكل جماعي. وتصدرت تلك القائمة موجة ما عرف باسم "الإنفلونزا الإسبانية"، التي اجتاحت العالم في أعقاب انتهاء الحرب العالمية الأولى (1918م)، تاركة وراءها -كما توثق كتب التاريخ- مئات الملايين؛ حيث "بلغ عددهم حوالي 500 مليون شخص أصيبوا بالعدوى، وأظهروا علامات إكلينيكية واضحة، وما بين 50 إلى 100 مليون شخص توفوا جراء الإصابة بالمرض أي ما يعادل ضعف المتوفين في الحرب العالمية الأولى". وتشير بعض كتب التاريخ، إلى اضطرار دول أوروبا، تحاشيا لاتساع انتشار حالة من الذعر، وإضافة أسماء المتوفين إلى قائمة شهداء الحرب العالمية الأولى.

وبخلاف فيروس كورونا، الذي اختار ضحاياه من المسنين، ومن يعانون من أمراض معينة، كانت "الغالبية العظمى من ضحايا هذا الوباء (الانفلونزا الاسبانية) من البالغين واليافعين الأصحاء بعكس ما يحصل عادة من أن يستهدف الوباء كبار السن والأشخاص المرضى أو ضعيفي المناعة".

 وبخلاف أرقام "كورونا" التي أصبحت متاحة، وبشكل آنٍ من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، والفضائيات، "قلصت الرقابة في زمن الحرب، للحفاظ على المعنويات، التقارير المبكرة عن المرض والوفيات في ألمانيا والمملكة المتحدة وفرنسا والولايات المتحدة. كانت الصحف حرةً في الإبلاغ عن آثار الوباء في إسبانيا المحايدة (مثل مرض الملك ألفونسو الثالث عشر الخطير). خلقت هذه القصص انطباعًا خاطئًا عن إسبانيا باعتبارها ضربة قوية جدًّا؛ مما أدى إلى تسمية الوباء بالإنفلونزا الإسبانية".

لكن بعيدا عن تلك الأرقام، والمقارنات، فقد كشف الاجتياح الوبائي الأخير الذي حققه الكورونا عن مجموعة من الحقائق التي تستحق التوقف والمعاينة.

أول تلك الحقائق أن كورونا ضرب عرض الحائط بذلك التقسيم الذي يسيطر على عقول المجتمع البشري، عندما يصنف اقتصادات العالم إلى واحدة "متقدمة"، وأخرى "متخلفة"، فقد بدأ الفيروس من اقتصاد يعد متقدما هو الاقتصاد الصيني الذي بات يحتل المرتبة الثانية بعد الاقتصاد الأمريكي، وفاقت أرقام ضحاياه في دول مثل الصين وأوروبا ما حصده من أرواح في بلدان مثل السعودية أو ماليزيا.. حتى عندما تقاس الأمور بشكل نسبي مبين على أرقام السكان والمساحة الجغرافية.

الأمر ذاته عندما يأتي الأمر عند المقارنة بين الدول العظمى وتلك الصغيرة، فلم تنجُ "الدول الأعظم" في العالم مثل الولايات المتحدة، والصين، في حين كانت إصابات الدول الصغيرة أدنى من نظيراتها العظمى بكثير، سواء عند المقارنة النسبية أو تلك المطلقة.

أحرج كورونا الأنظمة الشمولية مثل إيران، التي باءت مساعيها بالفشل عندما حاولت التكتم على أرقام الإصابات أو الضحايا، أو حين اضطرت إلى إطلاق سراح نزلاء السجون، وكانت نسبة المعتقلين السياسيين منهم عالية، خشية منها أن تكون السجون من الأماكن المفضلة لدى "كورونا" للانتشار.

أربك كورونا حكومات العالم أجمع؛ حيث أثبت أن أيًّا منها لم يكن مستعدا لمواجهات أزمات مفاجئة من هذا النمط، حتى بعد اكتشاف مدى خطورتها على أكثر من صعيد، لم يكن الإنساني سوى واحد منها. بل وجدنا أن الدول الغنية أشد عجزا، مقارنة بالإمكانات المتاحة لها، من نظيراتها الفقيرة.

كشف كورونا عن تلك الفروقات الحضارية، أو ربما الثقافية عند التعامل مع الأزمات أو الكوارث. فبينما تحولت مواجهة بعض المجتمعات للفيروس إلى حالة من "الكربلائيات" الجماعية التي مارست الهلع واللطم، شاهدنا أخرى مثل إيطاليا، تلجأ للغناء والرقص للتغلب على الحجر الصحي الذي ألزم المواطنين بالبقاء في المنازل ولفترات طويلة.

عرَّى كورونا الواقع المأساوي الذي تعاني منه المنظمات الدولية ونظيراتها الإقليمية، تتصدرها "منظمة الصحة العالمية"، التي لم يتجاوز دورها حتى يومنا الحاضر، الاكتفاء بعقد المؤتمرات الفاشلة التي لم يتخطَ حضورها الكشف عن الأرقام وإطلاق التحذيرات، دون الإقدام على خطوة عملية من شأنها محاربة الوباء، أو مساعدة ضحاياه من دول وأفراد.

كما أوضح كورونا ذلك الدور المزدوج الذي تمارسه قنوات التواصل الاجتماعي، فمن جانب كانت قادرة على تعرية الإعلام الرسمي غير الصادق الذي لا تزال تصر على التمسك به بعض الأجهزة الإعلامية الرسمية، لكنها من جانب آخر أسهمت في مضاعفة درجة الهلع الذي عانى منه المواطن الذي كان يتابع أخبار انتشار كورونا، وأرقام ضحاياه. ولم يخلُ الأمر من بعض الروايات المختلقة التي كانت تلهث وراء السبق الإعلامي، الهادف لإرضاء بعض من تمرسوا في هذا النوع من الإعلام.

على نحو موازٍ كشف كورونا تلك الأهمية التي باتت تحتلها "التكنولوجيا" في حياة الإنسان، بل ذلك الإنسان العادي؛ حيث وجدنا العديد من الدول -بما فيها تلك الصغيرة ومحدودة الموارد، والمؤسسات- بما فيها تلك الصغيرة والمتوسطة تستعين بالتكنولوجيا، للحد من المضار التي ولدها انتشار كورونا، فوجدنا المدارس تلجأ، وفي فترة قصيرة نسبيًّا، إلى برمجيات، ومنصات التعليم عن بعد. وشاهدنا شركات أخرى تشجع موظفيها للعمل من المنازل، وتستغني عن حضورهم إلى المكاتب. بل وصل الأمر إلى عقد قِمَّة مجموعة الدول السبع عبر دائرة فيديو مغلقة.. ومن المتوقع أن يتكرر الأمر مع قمة مجموعة العشرين.

والأهم من كل ذلك أنَّ الكورونا وضع المجتمع الدولي أمام تحدٍّ غير مسبوق: هل ينجح الإنسان، بعد كل ما حققه من تقدم أن يهزم خلية فيروس صغير من مستوى كورونا، أم يعترف بهزيمة ستكون عواقبها وخيمة.

وفوق هذا وذاك، لا يُمكن تجاوز سؤال ملح بات يقض مضاجع من يحلمون بمجتمع إنساني، بالمعنى الحقيقي لكلمة "إنساني". هل كورونا من نتاج الطبيعة، أم أنه من صنع الإنسان ذاته، وإحدى نتائج أنانيته وحيواينته!!