العهد الجديد
د. صالح الفهدي
أوضح الخطابُ التأسيسي الأوَّل لجلالة السُّلطان هيثم بن طارق –أيَّدهُ الله- للمرحلةِ المُقبلةِ الغاية السَّامية التي تُرفعُ لها الأبصار، وتُجدُّ لها الخُطى، وتُكدُّ لها السَّواعدُ، وتُشحذُ لها الهِمم، وتحشدُ لها الطاقات، وتُرسمُ لها الرؤى ألا وهي "المصلحة العليا للوطن"، وذلك في نطقه السَّامي قائلاً: "إن الانتقال بعُمان إلى مستوى طموحاتكم وآمالكم في شتى المجالات، سيكون عنوان المرحلة القادمة بإذن الله، واضعين نصب أعيننا المصلحة العليا للوطن".
فما أعظمُها من عبارةٍ، عبارةُ "المصلحة العُليا للوطن"، وما أسماها من غاية، وما أقدسها من شعار؛ ثلاثُ كلمات لو أُدركت معانيها، وعُقلت مراميها، وفُهمت أبعادها لخلصت النوايا، وصَفَت المقاصد، وأصبحَ كلُّ عملٍ خالصاً لوجهِ الوطنِ دونَ منَّةٍ، ولا رياءٍ، ولا زيف.
إنَّ الارتقاءَ نحو المقصد السَّامي "المصلحة العليا للوطن" ليس ارتقاءً مصطنعاً، ولا علواً متكلِّفاً، وإنما ارتقاءُ إخلاصٍ، وولاءٍ، وصدقٍ، وعملٍ، فالكلامُ كثيرٌ ليس له قيمة، ولا يباعُ بثمن، إنَّما الفعلُ هو القيمةُ ذاتها، لأنه ظاهرُ المبنى، واضحُ المعنى.
وما أضرَّ الأوطانَ إلاَّ النفاقَ والتزلُّف ممن يدَّعي خدمة "المصلحة العليا للوطن" بينما تقوده أهواؤه، وشهواته، وخُطاهُ إلى مرامي "المصلحة الدُّنيا للذات"، تلك الغاية التي استغلَّت مواردَ الوطن، فأهلكتْ مكتسباته، ومقدِّراته، تلك غايةٌ دنيئة خلَّفت الأوطانَ حطاماً، وتركتها عظاماً، ولم ترحمها حتى في لحظاتِ المحلِ والضعف، لأنَّ الجشع نهمٌ ليس له حد، والطمعُ ليس له نهاية..! وما أخسَّها من غاية "المصلحة الدنيا للذات" تلك التي لا ترى في الأوطانِ إلاَّ بقرةً حلوباً تمتصُّ ضرعها حتى لا تُبقي فيها قطرة، ولا ترى في الأوطانِ إلاَّ أشبارَ أرضٍ لا يشبعُ النَّهمَ أطوالها وأعراضها، ولا ترى في الأوطانِ إلاَّ مقامات الوجاهةِ، ورتبُ الرفعة..!
أما "المصلحة العليا للوطن" فهي تلك الراية البيضاءُ التي لا تحملها إلاَّ السواعدُ الفتيَّة، وتُعليها الأكفُّ النظيفة، وترفعها القلوب الأمينة، وتُسميها الهِمم المُخلصة، وهذه تحتاجُ إلى الأُمناءُ الخلصاءُ الأكفياءُ من أبناءِ الوطن؛ أولئك الذين لا يقايضون الوطن على كرامته وعزَّته ونمائه بانتهازيَّةٍ لا تعرفُ الشفقة، واستغلالٍ خالٍ من الشعورِ بمعنى الوطن.
"المصلحة العليا للوطن" يُربَّى عليها النشء وهم رُضَّعٌ، ويُنشأ عليها الفتيةُ وهم في بواكيرِ أعمارهم، ويكلَّفُ بها الشبابُ وهم في مستهلِّ ربيعِ شبابهم، ويحاسبُ عليها المواطنُ الراشدُ في كلِّ عملٍ من أعماله، فهي ليست "فرض كفاية" على المُواطنين من قامَ بها أُثيبَ عليها، ومن لم يقم لم يُعاقب عليها، بل هي "فرضُ العين" على جميع المواطنين من قام بها أُثيب، ومن لم يقم عوقب.
"المصلحة العليا للوطن" ليست نشيداً ترفعهُ الحناجر، ولا درساً مسطوراً في مُقررات الدراسةِ، ولا جملة يتحذلقُ بها كلَّ من هذر ومذر، بل هي "دستورُ أمَّة" و"عقيدةُ شعب" و"لواءُ وطن" من كانَ أميناً لها استحقَّ أن يُكافأ، ومن خانها استحقَّ التصويبَ، والتأنيب حتى يعودَ إلى رشدهِ وإلاَّ فالقوانينُ تزعهُ، والعقوباتُ تردعه، والشرائعُ تمنعه.
"المصلحة العُليا للوطن" هي وجهةُ الوطنِ في نمائه، وطريقهُ إلى ارتقائه، وسبيلهُ إلى مواصلةِ بذلهِ وعطائهِ، فإن هي سارت على الطريق المُستقيم، مساراً رشيداً، حصدَ الوطنُ نتاجها، ونالَ ثوابها، وإن هي نُحِّيت جانباً، وحرِّفت مقاصدها، أصابَ الوطنَ البلاءُ، ونالهُ الشقاء.
إن الوطنَ ليزدهرَ، وينمو، ويتطوَّر بفضل الإِدراك لهذه العبارة العظيمة "المصلحة العليا للوطن" لأن النوايا نزيهة، والأيادي أمينة، والقلوب مُخلصة من أجلِ الوطن .. والوطن وحده، وعلى عكسِ ذلك، فإنَّ الوطنَ يخربُ، ويندثرُ، ويضعف بسبب "المصالح الدنيا للذات" لأنها مستنقعُ الجشع، والطمع، وهو مستنقعُ لا يقعُ فيه سوى أهل النفوس الخسيسةِ التي لا ترى إلاَّ مصالحها، ولا تبصرُ إلا غاياتها وإن كان ذلك على جثةِ الوطن..!
الأوطانُ يبنيها المخلصون من أبنائها لا الانتهازيون، وما لم تمكِّن مخلصيها من البناءِ فلن تقوم لها قائمة، ولن تنجز لها غاية. والأوطانُ تعمَّرُ بمُحاربة الفساد وإفشاء النزاهة، وإرساء العدل، وإن لم يكن الفساد حربُ الوطن فسيعاني الضعف في جبهته الداخلية، تتناوشه الوحوش من كلِّ جانب، حتى يصبحَ فريسةً مسلوخةَ الإهابِ، منزوعةَ اللحم، حينها لا يجدي ردُّ الحالِ إلى ما كانَ عليه حالهُ.
"المصلحة العليا للوطن" تقتضي تشديد الرقابةِ على المال العام، وعلى استغلال موارد البلاد، وتستوجب المساءلة والمحاسبة وتشديد الجزاءات حتى تسدُّ ثقوب الفساد التي يتسرَّبُ منها، وتكفُّ الأيادي التي تمتدُّ إلى ثرواتها ومواردها.
هكذا تُصبح "المصلحة العليا للوطن" هي العلمُ الذي يرفرفُ خفَّاقاً بألوانه الثلاثة، وشعاره الأثير، وهكذا يصدقُ نشيدها، وتعظم حروفها، وهكذا يكون لها المعنى المتحقق، والمغزى المأمول.