عبدالنبي الشعلة
مضى أكثر من شهرين على قرار الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إرسال قوات عسكرية تركية إلى ليبيا للقتال إلى جانب قوات ومليشيات حكومة فائز السراج أو حكومة الوفاق الوطني التي تصفها تركيا بأنها الحكومة الشرعية لليبيا المُعترف بها دوليًا؛ مع أنَّ هذه الحكومة أصبحت في الواقع مجرد حركة مُنشقة عن الإجماع الوطني الليبي محاصرة في طرابلس وتسيطر على مساحة لا تزيد عن 15% من مجمل الأراضي الليبية.
إنَّ أصداء وتداعيات هذا القرار الخطير لا تزال تتوالى وتتردد وتلقي بظلالها على مجمل العلاقات بين دول حوض البحر الأبيض المتوسط، وتضيف المزيد من التوتر والتعقيد في شبكة علاقات الدول العربية ببعضها البعض.
وتبرر أنقرة هذا التدخل على أنَّه جاء استجابة لطلب تلقته من حكومة فائز السراج لحمايتها من هجمات الجيش الوطني الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر، وهو تبرير مرفوض وغير مقبول ويتعارض مع القوانين والأنظمة الدولية، خصوصًا ضمن معطيات الظروف التي تمر بها ليبيا، وهو يشكل بكل وضوح خرقًا واستباحة لسيادة دولة مستقلة وعملًا عدوانيًا وتدخلًا عسكريًا من دون تفويض دولي أو غطاء قانوني.
وقد سبق لتركيا أن بررت تدخلها واختراقها لحدود جارتيها سوريا والعراق على أنه عمل أملته ضرورة حماية حدودها وأمنها؛ مما يتطلب ملاحقة المُقاتلين الأكراد والإرهابيين في عقر دارهم في الدولتين الجارتين، إلا أنَّ مثل هذا التبرير غير وارد في الحالة الليبية التي لا تجمعها بتركيا حدود مشتركة.
إنَّ المسؤولين الأتراك والمدافعين عن سياساتهم يؤكدون وبكل صراحة أنَّ هذه الخطوة التركية تأتي وتنطلق من الحرص على حماية المصالح القومية لتركيا وحقوقها أو إرثها التاريخي في ليبيا.
ومن ناحية المصالح القومية فإن تركيا تهدف إلى الاستفادة من موقع ليبيا؛ كونها إحدى أكبر الدول المطلة على البحر الأبيض المتوسط، واستغلال ظروفها الصعبة وانقسامها وذلك لدعم الموقف التركي ومطالباتها التوسعية في النزاع الذي أثارته حول السيادة على مساحات واسعة في شرق البحر الأبيض المتوسط الغني بموارد الطاقة، وادعائها الحق في التنقيب عن الغاز شرقي هذا البحر.
والمعروف أنَّ تركيا، بسبب أطماعها وأحلامها ومراميها التمددية، لم تُبق لها أي صديق مجاور على ضفتي هذا البحر، ما عدا إسرائيل إلى حد ما، فهي محاطة بدول تعارضها وترفض سياساتها التوسعية في المنطقة، من أهمها مصر وسوريا ولبنان واليونان وقبرص وغيرها، كما أن الجزائر وتونس لا ترغبان في الاصطفاف إلى جانبها فيما يتعلق بتدخلها في ليبيا.
إن من بين أهداف تركيا لوقوفها إلى جانب السراج في صراعه مع حفتر هو تحدي ومواجهة مصر ودولة الإمارات العربية المتحدة بالذات اللتين تدعمان، مع دول أخرى، شرعية الأخير، وبالنسبة لمصر فإنَّ هذا التدخل والتواجد العسكري لتركيا على حدودها الغربية يشكل أكثر من تحدٍّ، بل إنه تهديد سافر لأمنها الوطني ومصالحها السيادية في البحر الأبيض المتوسط.
أما من ناحية الإرث أو الحقوق التاريخية التي تدعيها تركيا في ليبيا؛ فإنها تأتي في إطار أطماع وأحلام الرئيس أردوغان وحزبه الحاكم في إحياء السيطرة والنفوذ العثماني الغابر على الدول العربية، وإن إضعاف ليبيا وتثبيت وترسيخ انشقاقها وانقسامها لتسهيل السيطرة عليها يأتي ضمن أولويات هذه الأهداف التركية وفي هذه المرحلة بالذات.
إن الإرث العثماني في ليبيا الذي تدعيه تركيا الآن مصبوغ بألوان وأصناف الظلم والاستبداد والإجحاف بحق الشعب الليبي؛ فقد وقعت ليبيا تحت الاحتلال والسيطرة العثمانية في العام 1551م، وفي سنة 1711 ثار الشعب الليبي ضد الحكم العثماني الصارم المستبد، فانفصلت ليبيا عن السيطرة العثمانية في ذلك العام، إلا أن الدولة العثمانية طالبت الليبيين بمساعدتها في حربها ضد اليونانيين في العام 1829.
ولما رفض الليبيون ذلك، وبعد ضياع اليونان والجزائر من ممتلكات الدولة العثمانية قرر السلطان العثماني محمود الثاني في العام 1835 إعادة احتلال ليبيا وإلقاء القبض على حاكمها الليبي "علي باشا" ونقله أسيرًا إلى تركيا.
هذه الحقبة من الحكم العثماني لليبيا، التي تسمى بالحقبة الثانية استمرّت حتى العام 1912 عندما فشل العثمانيون في حماية ليبيا وتركوها فريسة للاحتلال الإيطالي.
وعندما كان الليبيون بإمكانياتهم المتواضعة يقاومون ويحاربون ويموتون في ساحات المواجهة ضد الغزاة الإيطاليين وافقت تركيا على بيع ليبيا للإيطاليين والتنازل عنها بموجب المادة 15 من "اتفاقية لوزان" الموقعة في العام 1920.
وقد أصبحت ليبيا ثاني أفقر دول العالم بعد إندونيسيا إلى أن حصلت على استقلالها في العام 1951 واعتلى الملك محمد إدريس السنوسي عرش الملك فيها في العام 1946 ليبدأ مرحلة من البناء والإصلاح والتنمية وإزالة آثار ومخلفات الحكم التركي العثماني.
ويؤكد الخبراء والمحللون أن قرار أردوغان المدعوم بتأييد حزبه الحاكم بالتدخل العسكري التركي في ليبيا هو قرار خطير وخاطئ ويشكل مجازفة محفوفة بالكثير من المخاطر والمحاذير.
فهذا التدخل سيكون مختلفًا تمامًا، ولا يمكن مقارنته بتدخلها في سوريا على سبيل المثال، ففي ليبيا لن تستطيع تركيا الاعتماد على المليشيات الإرهابية والمرتزقة، أو الاكتفاء بإرسال خبراء عسكريين أتراك، فإذا كان المطلوب من التدخل قلب ميزان الموقف العسكري لصالح حكومة فائز السراج؛ فإن ذلك سيتطلب تواجدًا عسكريًا كثيفًا وواسع النطاق بمشاركة الآلاف من الجنود النظاميين المدربين، وإلى تغطية ومساندة من جانب سلاح الجو التركي، وتأمين بحري من قبل الأسطول التركي لحماية السواحل والموانئ من الهجمات البحرية.
وفي سعيه لتحقيق تواجد ونفوذ عبر البحار؛ فإن أردوغان سيواجه تجربة أو وضعًا عسكريًا لم تألفه تركيا منذ أفول الإمبراطورية العثمانية وتدمير أساطيلها البحرية، ومن بين هذه التحديات والمخاطر، أو ربما أكبرها، صعوبة الاتصال والتحكم وضمان استمرار تدفق التموين والإمدادات والاحتياجات اللوجستية للقوات التركية المنتشرة على بعد 1500 كلم.
الخبراء والمحللون يؤكدون أيضًا أن أردوغان إذا استمر في الإصرار على التدخل العسكري في ليبيا؛ فإنه سيدفع بتركيا إلى الانزلاق في هاوية المستنقع الليبي الذي ستغرق فيه حتمًا أحلامه وأطماعه وتطلعاته التوسعية.