عبيدلي العبيدلي
من الظواهر المُصَاحبة لأية أزمة، بغض النظر عن طبيعتها، أو مدى انتشارها، هو ذلك الهلع الذي يجتاح أصحاب الأموال؛ فلا يترددون في المسارعة إلى أموالهم، سواء تلك المكدَّسة في صورة معادن وتحف ثمينة، أو سائلة على هيئة أموال أو استثمارات مودعة في المصارف المحلية، من أجل تحويلها إلى الخارج، سواء عبر طرق رسمية وشرعية، أو مخفية ومخالفة للقانون.. والمشترك هنا هو تلك الهجرة المفاجئة التي تُلحِق أسوأ الضرر بالاقتصاد الوطني، بغض النظر عن درجة سلامته.
حالة استثنائية رافقت انتشار فيروس الكورونا، الذي صنفته منظمة الصحة العالمية في فئة "الوباء العالمي"، هي العالمية التي رافقته، فلم يعد محصورا في الصين، ولا حتى في البلدان المصنفة في قائمة "البلدان المتخلفة"، بل وجدناه ينتشر كي يعم دول العالم، التي باتت أرقام الإصابة فيها "قياسية"، على مستوى نسبة الانتشار وسرعته.
لذلك؛ فضَّل كل من لديه أموالا "فائضة" أن يبقيها في "ديرتها المحلية"، تمسكا بنصيحة المثل "الشر اللي تعرفه أحسن من ذاك اللي تجهله".. لذلك؛ لم يشهد العالم هجرة الأموال من الدول النامية إلى بلدان "الاقتصادات المقدمة". وربما هذه من "نِعَم" الكورونا الذي تطور من فيروس محلي إلى آخر "أممي"، إن جاز لنا القول.
وإذا قبلنا بظاهرة "هروب" رؤوس الأموال إلى الخارج، عملًا بمقولة "جبن رأس المال"، فالاستنتاج الطبيعي لتلك المقولة، وطالما نحن نمر بمحنة "الكورونا"، أن منطقة الخليج تعاني من كورونا شبه دائمة، نظرا للنزيف غير المتوقف لأموال العمالة الوافدة من منطقة الخليج إلى بلدان تلك العمالة الأصلية.
وقبل التوقُّف عند تلك الأرقام، تنبغي الإشارة إلى أربع قضايا جوهرية، في طبيتها وتأثيراتها، رافقت تلك "الطفرة النفطية"، وشكلت في صلبها ظاهرة قريبة من الظواهر المرافقة لانتشار "الفيروسات"، باستثناء تلك التي شهدناها مع فيروس الكورونا، وهي:
الأولى منها، أن تلك الظاهرة، مهما بلغت درجة رفضها لدى المواطن الخليجي، نتيجة طبيعية، وربما منطقية، نظرا للثروة السائلة المفاجئة والسريعة التي رافقت اكتشاف النفط وبكميات كبيرة تجارية أولا، وللارتفاعات المفاجئة، وربما غير المنطقية، بموجب قوانين الاقتصاد التقليدي، خلال عقود السبعينيات حتى أواخر التسعينيات من القرن الماضي، التي رافقت تلك الاكتشافات النفطية الخليجية. ثانيا: والتي كان من نتائجها المباشرة، تكدس تلك الثروات النقدية السائلة، كي لا نخطئ فنقول تلك الرساميل السائلة. فبينما تعني الأولى مجرد أرقام مغرية، تعبر الثانية عن أموال منتجة. شكلت تلك السيولة عنصر جذب غير مسبوق في تاريخ الهجرة الباحثة عن عمل في التاريخ الإنساني. ربما تكون شبيهة بتلك التي عرفتها أمريكا في مرحلة ما أطلق عليه "حمى الذهب".
أما الثانية، فهي أنَّ تلك العمالة تمارس في ذلك السلوك طرقا شرعية من جانب، وحقا من حقوقها الطبيعية من جانب آخر. فقد كان، ولا يزال الهدف الرئيس من هجرتها هو توفير المال الضروري الذي يحسن من وضعها الاجتماعي في بلدانها الأصلية من جهة، ويوفر لها سيولة نقدية تمكنها من استثمارها، وعلى نحو فردي في الاستجابة لمتطلبات الحياة المعاصرة من تعليم متطور، وطبابة متقدمة، وسكن لائق، من جهة ثانية.
وتشكل الثالثة -وإن لم تكن مقصودة في بداياتها- نزيفا مستمرا، وشرعيا، ومتسترا، للثروات الخليجية، التي فقدت نسبة هائلة من ثرواتها المتحصلة من تصدير النفط، التي بدلا من ان تستقر في أسواقها، وجدناها "تهرب" نحو أسواق اليد العاملة الأجنبية الوافدة من بلدان تلك الأسواق.
أما الرابعة، فهي أن نسبة لا يستهان بها من تلك الأموال، تنفق على أنشطة "خاملة"، أو غير منتجة إن جاز القول؛ حيث استنزفت تلك النسبة في جلب قوة عاملة في المنازل، دورها الأساسي أداء ما كان يفترض أن يقوم به أفراد الأسر التي جلبت تلك اليد العاملة. يزداد الأمر سوءا عنما نكتشف أن تلك الأسر تنتمي إلى الفئات المتوسطة، التي مارست تاريخيا الرافعة الأساسية للإنتاج في الاقتصادات السليمة والمعافاة.
وتصدم الأرقام الضخمة من يحاول أن يشخص تلك الظاهرة، ويحصر قيمتها "الهاربة" نحو الأسواق الخارجية، من بلدانها الخليجية الأصلية. فوفقا لمصادر موثوقة "بلغ إجمالي تحويلات العمالة الوافدة المقيمة في دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية نحو 69.5 مليار دولار عام 2012م، وبلغ عددهم نحو 15.1 مليون عامل وعاملة حتى نهاية عام 2010م (وفقاً لأحد التقارير الصادرة عن البنك الدولي). وتمثل العمالة الوافدة نحو 36.3% من إجمالي عدد سكان دول مجلس التعاون البالغ 42.7 مليون نسمة في العام 2010".
وتعرف هذه الأرقام زيادة مضطردة ومستمرة في آن.. فوفقا لما نشره موقع "مباشر" الإلكتروني، "ارتفعت قيمة تحويلات العمالة الأجنبية في الإمارات للخارج إلى 129.4 مليار درهم خلال الأشهر التسعة الأولى من العام الجاري بنمو 7% مقارنة مع 121 مليار في الفترة ذاتها من العام 2017. ووفقاً لإحصاءات مصرف الإمارات المركزي فإن الزيادة المسجلة في تحويلات العمالة الأجنبية منذ بداية العام الجاري وحتى نهاية شهر سبتمبر جاءت رغم الانخفاض الذي شهده الربع الثالث من العام ذاته حيث بلغت قيمتها 41.4 مليار مقارنة مع 43.3 مليار في الربع الثالث من 2017".
ووفقا للتقرير الصادر عن صندوق النقد العربي في العام 2019: "تمثل التحويلات المرسلة للخارج في دول الخليج 26.8 في المائة من إجمالي التحويلات عالميا في 2017. وتحتل الإمارات والسعودية المرتبة الثانية والثالثة عالميا بقيمة 44.4 و36.1 مليار دولار على التوالي". وفي دولة الإمارات العربية المتحدة وحدها، ووفقا لتقارير "مصرف الإمارات المركزي"، ارتفعت قيمة "تحويلات العمالة الأجنبية في الإمارات للخارج بنسبة 3.1% إلى 169.2 مليار درهم في 2018، مقابل نحو 164.4 مليار درهم في العام 2017".
تلك الأرقام وغيرها، تكشف أننا نعاني من فيروس مستمر ومتصاعد هو فيروس هروب رأس المال الخليجي نحو الخارج. وهو فيروس اكتشف المضاد الحيوي الذي بإمكانه القضاء عليه لكنه لم يستخدم لسبب قد لا يبدو منطقيا!