د. صالح الفهدي
ورد مصطلح "الحوكمة" في الخطاب التأسيسي لجلالة السُّلطان هيثم بن طارق -حفظه الله-، وذلك في معرض حديثه عن أولويات المرحلة المُقبلة، وهو مصطلحٌ لا يكادُ يكون واضحاً لدى شريحة واسعة للنَّاس فهو من المصطلحات التي بدأ استخدامها في بدايات التسعينات من القرن العشرين من قبل المنظمات الدولية، كما أن لفظة "الحَوْكَمَة" حديثةٌ في قاموس اللغة العربية إذ أقرَّها مجمع اللغة العربية في القاهرة عام 2002م ترجمةً للكلمة الإنجليزية Governance.
بيدَ أنَّ هناك من يُطلق عليه مصطلحاً آخر هو "الحكم الرشيد" وتبرزُ أهميَّة هذا النمط من الحكم في أنَّه يشملُ مزايا ذات فعالية وحيوية لإدارة كفوءةٍ قادرة على الاستجابة لمتطلبات المواطنين، ومستجدات العصر، وشاملةٍ على خصائص أساسية اشتمل عليها الخطاب السامي من مثل: المساءلة والمحاسبة، والشفافية، والمشاركة في صناعة القرارات.
يعرِّف تقرير التنمية الإنسانية العربية الحكم الرشيد بأنه:"الحكم الذي يُعزز ويدعم ويصون رفاه الإنسان، ويقوم على توسيع قدرات البشر، وخياراتهم، وفرصهم، وحرياتهم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، ويسعى إلى تمثيل كافة فئات الشعب تمثيلاً كاملاً، وتكون مسؤولة أمامه لضمان مصالح جميع أفراد الشعب" كما يعرِّفها البرنامج الإنمائي للأمم المُتحدة (UNDP) بأنها "ممارسة السلطة السياسية والاقتصادية والإدارية في تسيير شؤون المجتمع على كافة المستويات، ويشمل الحكم الآليات والعمليات والمؤسسات المركبة التي يقوم من خلالها الأفراد والجماعات بالتعبير عن مصالحهم، ومُعالجة خلافاتهم، وممارسة حقوقهم والتزاماتهم القانونية"، ويتميز الحكم الرشيد أو "الحوكمة" بإشراكه للقطاع الخاص والمجتمع المدني في إدارة شؤون الدولة جنباً إلى جنب مع الحكومة.
ونفهم من سياقِ ما وردَ في الخطاب التأسيسي الأوَّل لجلالة السلطان –أيَّده الله- أنَّ المُعطيات الواردة في مضمون نطقه السامي تشيرُ إلى تبني هذا النمط العصري من الحكم لما وردت في سياقه من خصائص تتسم بها المرحلة المُقبلة مثل: المشاركة في صنع القرار، الرقابة، المحاسبة، الشفافية، التنمية المستدامة، الفاعلية والكفاءة، العدل، سيادة القانون وغير ذلك مما يتَّصفُ به الحكم الرشيد من سِمات، وما يكتنفه من أبعادٍ سياسية وإنسانية واقتصادية وإدارية واجتماعية.
وإذا كان مصطلح "الحوكمة" جديداً على مجتمعاتنا الإسلامية، فإن مبادئ الحكم الرشيد ليست بجديدة على الأمة الإسلامية منذ نشأة الدولة الإسلامية، فقد قامت على الأُسس التي تدعو لها الحوكمة كإرساء مبادئ العدل، والمساواة، وإعلاء شأن الكرامة الإنسانية، وقد نصَّ الإسلام على الارتكاز على هذه المبادئ القويمة التي ترمي إلى تقوية عرى الحكومة التي ترعى شؤون الوطن بالمواطنين وسائر المؤسسات الأخرى مدنية أو تجارية.
وحيثُ إننا إزاءِ استحقاقات مرحلية قادمة وضعَ قائدها المحددات الواضحة لها، فإنَّ ذلك يعني أن الحكومة في هيكلتها الجديدة ستتبنى منهج الحكم الرشيد، وفي هذا النطاق يُؤكد د.خلف عبدالله الوردات في مقالةٍ له بعنوان"الحوكمة في القطاع العام" أن الحوكمة تعني "مجموعة التشريعات والسياسات والهياكل التنظيمية والإجراءات والضوابط التي تُؤثر وتشكل الطريقة التي توجه وتُدير الدائرة الحكومية لتحقيق أهدافها بأسلوب مهني وأخلاقي بكل نزاهة وشفافية وفق آليات للمُتابعة والتقييم ونظام صارم للمساءلة لضمان كفاءة وفعالية الأداء من جانب، وتوفير الخدمات الحكومية بعدالة من جانب آخر. باختصار فإنَّ الحوكمة هي الترتيبات التي تقوم بها الدائرة الحكومية من أجل ضمان تحقيق النتائج المطلوبة من قبل الأطراف ذات العلاقة".
ووفقاً لذلك فإنَّ هناك مجموعة رؤى من وجهة نظري لتطبيق مبادئ الحوكمة في القطاع الحكومي لتحقيق الرؤية الاستراتيجية بعيدة المدى "عُمان 2040" ولإدارةٍ فاعلةٍ للحكومة، واستثمارٍ أفضل للقدرات البشرية، وتوظيف أمثل للموارد المالية، ومن ذلك:
- توسعة صلاحيات مركز عُمان للحوكمة والاستدامة (OCGS) الذي أُنشأ بمرسوم سلطاني رقم 30/2015 ليشمل الحكم الرشيد في المؤسسات الحكومية وتمتعه بالشخصية الاعتبارية.
- إنشاء هيئة عُليا مهمتها مُراقبة تحقيق الأهداف والإستراتيجيات الوطنية في الجهات الحكومية المختلفة، وضمان عملها وفقاً لما هو مطلوبٌ منها، وفي مدة زمنية مُحددة.
- تطوير مستوى الأداء المؤسسي في الدوائر الحكومية وذلك عن طريق التقييم المُستمر، وإصلاح الخلل، وتعزيز قدرات الكادر البشري، وتصحيح السياسات، والممارسات، وتفعيل قيم النزاهة والشفافية والمساواة، وإدارة الموارد المالية، واستخدامات الوظيفة، واستغلال السلطة لتحقيق مآرب شخصية، وحماية القوانين من التلاعب، وتفعيل مبادئ المراقبة والمساءلة والمحاسبة درءًا للفساد، وحماية للمال العام وحق المواطنين.
- الاهتمام بالعنصر البشري في المؤسسات الحكومية، عبر برامج مُتخصصة في الحكم الرشيد من أجل صنع ثقافة مؤسسية قائمة على المبادئ المتينة لهذا النهج الإداري في حوكمة القطاع العام، وتوسعة المشاركة في صنع القرار.
هذه بعض الأفكار التي يُمكن أن تُسهم في توطيد مبادئ الحوكمة أو الحكم الرشيد، من أجل تنميةٍ مزدهرةٍ، وحكومةٍ تتمتع بالخصائص الملائمة للإدارة في عصرٍ يتسم بالسرعة، والكفاءة، والفاعلية، والمرونة.