ناصر بن سلطان العموري
abusultan73@gmail.com
سلَّطنا الضوء خلال الجزء الأول على واقع الأمراض الوراثية لدينا في السلطنة، وتأثيرها على كينونة الشعب العماني، وخطرها الجسيم على جيل المستقبل، بناءً على نسبٍ أخذت من الواقع المعاش للمجتمع العماني ، وعبر هذا المقال سوف نتطرق لزواج الأقارب في السلطنة، وكيفية الحفاظ على نسيج الشعب العماني الصِّحي حاضراً ومستقبلاً، ودور كل من مجلس الشورى -ممثلًا في اللجنة الصحية- ووزارة الصحة -مُمثلة في المركز الوطني للصحة الوراثية- وما يقُومان به من جهود في هذا المجال؛ ومن أهمها: مبادرة أهمية الفحص المبكر قبل الزواج لتكوين جيل صحي آمن لمستقبل أفضل إشراقاً.
إنَّ من أهم ما يتميز به المجتمع العُماني هو الترابط الأسري المتين الذي حثَّ عليه ديننا الحنيف، ومع مرور الزمن، ووجود هذا الترابط الأسري المتأصل لدينا، نشأت معه كثرة التزاوج من الأقارب على مختلف مستوياتهم، بل وازدادت في منطقة الخليج عموماً، وفي السلطنة على وجه الخصوص؛ حتى أصبحت هي القاعدة؛ حيث كانتْ نسبة الزواج من الأقارب من الدرجة الأولى، كما بينتها الإحصائيات الرسمية 24%، بينما كانت النسبة 11.8% بين الأقارب من الدرجة الثانية، في حين شكل الزواج بين الأفراد من نفس القبيلة ما نسبته 20.4%.
وتعدُّ هذه النتائج من النسب العالية للزواج من الأقارب على المستوى العالمي، خصوصا إذا ما علمنا أنَّ معدل الزواج من الأقارب في كثير من الدول حوالي 8.5%. نتج عن كثرة هذا التزاوج زيادة واضحة في معدل الأمراض الوراثية والعيوب الخلقية بأنواعها، ولأن الكثير من هذه الأمراض التي ربما يكون من الصعب علاجها أو تحتاج إلى عناية مستمرة وباهظة الثمن، ولها تأثيرات اجتماعية ونفسية ومالية على الكثير من هذه الأسر، فإنه من الضروري العمل على الحد من التداعيات السلبية الناجمة عن ذلك بالتوعية المستمرة للأسرة والمجتمع، فيما يتعلق باحتمال تأثير هذه الأمراض على ذريتهم.
وزواج الأقارب في حد ذاته لا يكون سبباً في إضعاف النسل أو إصابته بالأمراض الوراثية في حالة سلامة السلالة العائلية، وخلوها من العيوب الخلقية، بل قد يكون مصدرا للحفاظ على قوة السلالة وصحتها، ولكن وجب التوضيح هنا بأن هذه الحالات تكون نادرة، ولا تبنى عليها قاعدة علمية مستدامة؛ حيث إن نتاج معظم الدراسات والبحوث أوضح بشكلٍ جليٍّ أنَّ تكرار زواج الأقارب يضعف النسل جيلا بعد جيل؛ نتيجة تنامي معدل الإصابة بالأمراض الوراثية بين الأجيال المتعاقبة لنفس الآباء.
وتوجت جهود وزارة الصحة بإنشاء المركز الوطني للصحة الوراثية والمختص في تقديم مختلف الخدمات التشخيصية والعلاجية والإرشاد الوراثي للمصاب وأسرته، والتوسع في الفحوصات الخاصة بالتشخيص الوراثي، ومن أهم الأنشطة المنوطة بالمركز الارتقاء بالوعي الصحي والمعرفي للمجتمع في مجال الصحة الوراثية؛ مما ينعكس إيجابيا -وبشكل كبير- على مستوى الصحة الوراثية للفرد والأسرة والمجتمع.
وهناك جهود يحقُّ لها أن تُذكر يقوم بها المركز الوطني للصحة الوراثية التابع لوازرة الصحة الفحوصات التي يشملها البرنامج الوطني لفحوصات ما قبل الزواج متعلقة بأمراض الدم الوراثية (مرض الأنيميا المنجلية ومرض التلاسيميا ومرض نقص الخميرة)، والتي تعتبر الشائعة في عُمان، مقارنة بأنواع الأمراض الوراثية الأخرى؛ لذلك فإنَّ المختصين يُوصُون بضرورة إجراء هذه الفحوصات قبل بدء أي مشروع للزواج، والتي بالإمكان إجراؤها في أي مركز صحي في المراكز الصحية والمستشفيات.
لا توجد في الوقت الحالي إحصائيات حديثة تعكس تقييما دقيقا لإقبال أفراد المجتمع على إجراء الفحص الجيني قبل الزواج في الوقت الراهن، ولكن نتمنى جل التمني أن يتم ذلك قريبا نظرا لأهمية الأمر وتأثيره على جيل المستقبل، وتمَّ من قبل وزارة الصحة تأهيل عيادات متخصصة لأجل فحص أمراض الدم الوراثية قبل الزواج في معظم مناطق السلطنة تسهيلا للراغبين من المواطنين، صاحب ذلك تطوُّر هذه الخدمة وتوفير المستلزمات اللوجستية لتواكب الأعداد المتزايدة لطالبيها من مختلف محافظات السلطنة.
ولمجلس الشورى جهودٌ ملموسة وواضحة للعيان، يقوم بها عبر اللجنة الصحية فيما يتعلق بوعي المواطنين حول مخاطر الأمراض الوراثية النابعة أساسا من زواج الأقارب، وحث المجتمع بجميع طوائفه وشرائحه على ضرورة -لا سيما المقبلين على الزواج- الفحص المبكر من خلال مراجعة العيادات المختصة، ويتمثل الدور الأساسي للمجتمع في المساهمة بالارتقاء بمستوى الصحة الوراثية للفرد والأسرة.
من هنا، نستخلص مما سبق ضرورة تكثيف توعية المجتمع بكافة طوائفه على أهمية الفحص المبكر قبل الزواج، لا سيما للأجيال القادمة والمقبلين على الزواج بصفة خاصة من قبل الجهات المختصة؛ سواء كان عبر القنوات الإعلامية الرسمية أو الخاصة منها أو عبر مواقع التواصل الاجتماعي كون جل متابعيها من فئة الشباب، ولمَ لا يتم كذلك دراسة إلزامية هذا الفحص للمقبلين على الزواج من قبل الجهات البرلمانية وبالتنسيق مع الجهات المختصة؛ حرصاً على سلامة جيل المستقبل وتقليل النفقات العلاجية عن كاهل الدولة.
إنَّ الإيمان بأهمية التوعية والتثقيف الصحي من قبل جميع فئات المجتمع سوف يُسهم في تحقيق نتائج إيجابية، كما أن ترسيخ مفهوم أهمية فحص ما قبل الزواج بات مطلبًا ملحًّا يرافقه العمل على تنمية الوعي العام حول ما يُمثله هذا الإجراء من حل جذري ووحيد في التحكم في ازدياد معدل الإصابة بين أفراد المجتمع... حفظ الله عمان وشعبها من كل سوء ومكروه.