أيقونة تغلي

 

محمد بن سالم البطاشي

 

لم يكن الصراع في الشرق الأوسط وعليه وليد هذه الحقبة أو الحقب القريبة، بل هو موغل في القدم وممتد في أعماق التاريخ بدرجات مختلفة من الخشونة، وبعد الحرب العالمية الأولى وسقوط الدولة العثمانية عام 1922 والأحداث التي تلت ذلك تجلت الأهمية الاستراتيجية الحاسمة للشرق الأوسط في تقرير مصائر الأحداث الكبرى، وجعلت من السيطرة على مقدراته أحد الغنائم  في الصراع الهائل الذي خاضته البشرية أثناء الحرب العالمية  الثانية وما تلاها من مشاريع إعادة الإعمار والبناء الحضاري والفكري، وعلى ساحاته وميادينه دارت أعنف المعارك وأكثرها حسما في التاريخ الحديث.

هو قلب العالم القديم وشريان الحياة للعالم الجديد، والجوهرة المتلألئة على جبين العالم، حيث الجغرافيا تفصل أو تصل القارات ببعضها، يتساوى في ذلك قديمها وجديدها، وهنا تتقاطع طرق التجارة العالمية منذ القدم وإلى اليوم، وهو مهبط الديانات ومهوى أفئدة المؤمنين بكل دين سماوي، يشغل أرضا خصبة تجري فيها أنهار غزيرة، وبحار زاخرة بالخيرات. ثم بعد ذلك- وبالتزامن مع الثورة الصناعية الثانية- أسفرت عمليات التنقيب والاستكشاف عن وجود كميات هائلة من النفط والغاز، وهو ما جعل هذه البقعة أيقونة العالم ومقصد كل طامع وطامح ومغامر؛ حيث تشير التقديرات إلى أن ثلثي مخزون العالم من وقود الطاقة كامن في باطنها، وأن ثرواتها المعدنية لا تقل أهمية عن النفط والغاز، فأخذ الصراع  يشتد ويستعر، وكل يدعى الأحقية والأسبقية، صراع يتجلى في صور شتى ظاهرة حين، وخفية في أحيان أخرى، ويتلون بألوان عديدة سياسية واقتصادية وحضارية وعسكرية، صراع  تمتحن فيه الإرادات والأعصاب والضمائر بين قوى السيطرة الخارجية وأعوانها في الداخل من جهة وبين الأمم التي تسكن هذه المنطقة.

ويتجلى ذلك من خلال سعي هذه القوى جاهدة للوصول إلى أهدافها مستغلة شتى الوسائل المتاحة مركزة جهدها على تعطيل أو وقف مسيرة أمم الشرق نحو المستقبل وامتلاك إرادتها وتقرير مصائرها، ولكن الطرف الآخر  يريد  لها أن تنسى نفسها وهويتها وكينونتها وماضيها ومستقبلها ويحاول مصادرة أحلامها وأمانيها، وسلاحه في ذلك محاولة مستميتة لتعطيل ذاكرتها أو مسخها، حتى ترخي له قيادها أو اقتيادها بالقوة الجبرية إلى مقاصل مطامعهم ومسالخ مطامحهم، ولا يزال الصراع في الشرق الأوسط وعليه ملتهبا وصهارته لزجة  طرية لم تتجمد بعد وهو مفتوح  على كل الاحتمالات، وهناك من يريد تشكيل ملامحه وفق التصورات التي تخدم مصالحه وطموحاته وأطماعه وتطلعاته، والتي تتناقض جملة وتفصيلا مع تطلعات ورؤى سكانه الأصليين.

وتأتي صفقة القرن في هذا الإطار المتمثل بفرض الأمر الواقع ومطالبة الفلسطينيين بالإستسلام الكامل بدون قيد أو شرط، مجافية بهذا المسلك الفظ لكل منطق سوي وعقل سليم ومناقضة لكل حقائق التاريخ والجغرافيا، ومولية ظهرها لكل القرارات والمواثيق والاتفاقيات والشرعية الدولية، فهذه الصفقة هي عطية من لا يملك لمن لا يستحق.

وبالرغم من العنت والدعاية المضللة الذي تلاقيه دول العالم من الحركة الصهيونية العالمية والولايات المتحدة الأمريكية فإنّ المعترفين بالدولة الفلسطينية يصل إلى 156 دولة، ولقد كانت دولة السويد من أوائل الدول الأوروبية التي اعترفت بالدولة الفلسطينية عام 2014م. وهي تقود حاليا الجهود الدولية والأوروبية إلى اعتراف عالمي واسع بها ردا على صفقة القرن. وعلى المستوى السياسي فقد ظلت أوروبا موحدة في موقفها الرافض لهذه الصفقة، معتبرة إياها تجاوزا غير مقبول للمواثيق والإتفاقيات والأعراف والقرارات الدولية التي أصدرتها الأمم المتحدة منذ نكبة عام 1948م. وإلى يومنا هذا، ومنها القرار الشهير 242 واتفاقية أوسلو، وحتى في داخل إسرائيل ذاتها وكذلك الولايات المتحدة الأمريكية، هناك أوساط وقوى عديدة تجد في هذه الصفقة نذير شؤم وتهديد خطير لوجود إسرائيل نفسها.

في الجانب الآخر نجد أن بعض الدول التي يفترض فيها تبني القضية الفلسطينية والاستماتة في الدفاع عنها باعتبارها قضية إسلامية عربية مقدسة، تتخفى تحت مواقف ضبابية هي أقرب إلى التأييد منها إلى الرفض، بل إن البعض سارع إلى تأييد هذه الصفقة المشؤومة والتي هي أشد وأنكى من وعد بلفور سنة 1917. ومثل هذه المواقف هي التي شجعت إسرائيل ومن ورائها من الأحلاف والقوى على الاستخفاف بمشاعر مليار مسلم وانتهاك مقدساتهم في فلسطين، دون أدنى اعتبار للرأي العام العالمي أو للشرعية الدولية، والمضي قدما في خطط التهويد والتهجير القسري والعقاب الجماعي والفصل العنصري والتضييق واستلاب أراضي وممتلكات الفلسطينيين وهدم منازلهم وقراهم تحت مختلف الذرائع.

إن الشعب الفلسطيني مدعو اليوم أكثر من أي وقت مضى أن يرص صفوفه وينبذ التنابز بالمواقف والأفكار والفرقة والاختلاف، وتغليب المصلحة العليا لفلسطين ووضعها فوق كل اعتبار وأن يضع يده في يد كل الأحرار وأصحاب الضمائر والقيم الحية في العالم لإفشال هذا المشروع الإقصائي، وذلك من خلال كافة الوسائل المتاحة أمامه داخليا وخارجيا، وهو مدعو إلى ابتداع أساليب جديدة للمقاومة وفضح ممارسات إسرائيل أمام الرأي العام الدولي في شتى المنابر العالمية وتوظيف ثورة الاتصال العالمي لزيادة الوعي لدى شعوب العالم وحكوماته بعدالة قضيته، وحجم تضحياته ونبل أهدافه المتمثلة في العدالة والحرية والاستقلال، ذلك أنّ الصراع في فلسطين وعليها صراع وجودي وليس حدوديا.

تعليق عبر الفيس بوك