العهد الجديد

5- النزاهة

 

 

 

د. صالح الفهدي

عنصرٌ خامس ورد في الخطاب التأسيسي الأول لجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم -حفظه الله ورعاه- ألا وهو النزاهة، وعنصر النزاهة هو حجر الزاوية في عملية الإصلاح جميعها؛ فبه تستقيم أركان الدولة، ويَسْلَم مالها العام من النهب والاختلاس، وهو الضامن لتوجيه الموارد المالية وجهتها الصحيحة دون فساد أو تعثير.

وإذا أردنا أن نُدرك قيمة النزاهة، وأثرها، ومدى فاعليتها، فإنَّ علينا أن نُدرك المقابل للنزاهة، فبضدها تتمايز الأشياء، والمقابل هو الفساد، وهو سلوك مُدمِّر لاقتصاد الدول، ومُخرِّب للمال العام، ومُضيِّع للحقوق، ومُفسِد للأخلاقيات، ومُقوِّض لأسس دولة القانون والمؤسسات، وهذا ما أكَّدت عليه كريستين لاجارد مديرة الصندوق الدولي بقولها إنَّ "الفساد يقود إلى انخفاض معدلات النمو وزيادة عدم المساواة في الدخل، وتآكل أوسع في المجتمع، والأهم أن تقوض الثقة في الحكومات"، ومن صور الفساد الرشوة؛ حيث تُضيف مديرة الصندوق الدولي في مناسبة أخرى بالقول: "إنَّ التكلفة السنوية للرشوة وحدها تبلغ أكثر من 1.5 تريليون دولار، وهو الرقم الذي يخسره الاقتصاد العالمي سنويًّا بسبب الرشوة، وهو رقم يُمثل حوالي 2% من إجمالي الناتج المحلي العالمي".

إنَّ الرشوة هي خيانة عظيمة للوطن، ولا حقَّ فيمن يخون وطنه بالرشوة أن يتشدق بحب الوطن، أو يأتي بذكره على لسانه، وهي خلة قميئة للراشي والمرتشي بل والرائش وهو الساعي بينهما. ما تفشت الرشوة في مجتمع إلا نخرت أساسه، ودمرت عيشه، وأهلكت فيه الحرث والنسل، وبثت فيه عفونة الأنانية المقيتة، والمؤسف في هذا الأمر كله أننا مجتمعات مُسلِمة تُدرك خطر الرشوة، ومع ذلك فإنَّ الأمر لا يقف عند حدود معينة، بل إنَّ بعض المرتشين فيها لا يخجلون من لباس العمامة التي (يحسب) أنها علامة التقوى والصلاح، وما هي عند هؤلاء المرتشين إلا أقنعةً يتستَّرون وراءها لتحقيق مآربهم في خيانة أوطانهم، وإذلال أنفسهم، وإطعام أسرهم الحرام!

ولا شكَّ أنَّ الوطن قد أضاع الكثير من ثرواته في الفساد أكان ذلك في عقود وصفقات، أو في معاملات ومناقصات، أو في وساطات ومقاولات، أو في تزوير لشهادات..! أضاع الكثير من موارده لأن البعض لم يخش الله، ولم يأبه لحساب الآخرة، ولم يلتفت لنداء الوطن، وإنما عاش أصم، أعمى، يطلق لسانه بحب الوطن، وذكر مناقبه وأفضاله!

لا يُدرك أصحاب الضمائر الفاسدة أنَّ الرشوة إذا سرت وانتشرت في المجتمع فإن فعلها فيه، كفعل الرمة في الخشب؛ تنخره نخراً حتى تحيله إلى كومة من الركام..! وإذا أدركوا ذلك صموا آذانهم، وعموا أعينهم، وأقنعوا أنفسهم بأن الأمور تمضي كلها على هذا النحو!

حين يتَّخذ الموظف الرشوة سبيلاً للاتجار بوظيفته، يتجرَّد من الأمانة نهائيًّا؛ فيُصبح خاوياً من قيمته كمواطن فقد جاء في الأثر: "إذا دخلت الرشوة من الباب خرجت الأمانة من الكوة"..! ما قيمة الوظيفة إذن إن ارتشى الموظف، وسال لعابه لما يدر عليه ابتزاز الآخرين وانتهاز حاجاتهم من أموال زائفة تدخل في لقمته ولقم أبنائه..؟! ما قيمة الدين إذا رشى أو ارتشى الفرد الذي يدَّعي ظاهريًّا أنه يؤدي العبادات وهو يخالف كل ما تسعى إلى تحقيقه من قيم ومكارم أخلاق فيه..؟!  يقول الحق سبحانه وتعالى: "وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ" (البقرة: 188). وفي الحديث الشريف عن عبدالله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي" (رواه الترمذي).

الرشوة باب الفساد في المجتمع، ومدخل إلى ضعضعة الثقة في المؤسسات التي تعمل على خدمة المجتمع، لأنها عندئذ تحيد عن هدفها السامي وهو خدمة الوطن، لتصبح أداةً طيِّعةً لخدمة الأفراد العاملين في هذه المؤسسات يمارسون من خلالها الابتزاز. وعند ذلك تسود في المجتمع الضغائن والأحقاد لأن مرضاً عضالاً قد أصاب ميزان المساواة بينهم، فتتفكك عرى المجتمع، وتضيع مصالح الناس، وينتشر الظلم، وتهضم الحقوق، وتضيع الأمانات.

وإذا ارتشى القاضي خرب القضاء، واختلَّ ميزان العدل، وضاعتْ الدعامة المركزية للمجتمع. وإذا ارتشى الموظف انتُهِكت الأمانة، ووُئِد الضمير الوطني، وضيعت حقوق المواطنين. وبهذا يصبح المجتمع برمته أشبه بالغابة التي يتغلب فيها القوي على الضعيف، وذو السلطة على الأتباع.

وبعد إدراك المزالق المنحرفة للرشوة، وآثارها المدمِّرة على المجتمع، نعود إلى النزاهة، لنثمِّن قيمتها وندرك ما لها من أثر في إحقاق الحق، ونشر المساواة والعدل، وتوطيد أركان البناء الاجتماعي، ومن هُنا لكي يتحقق الإصلاح بقمع شهوة الفساد، وسد ثقوبه، وإفشاء النزاهة، يتوجب الآتي:

- مراجعة القوانين والتشريعات لإصلاح ما يتوجب إصلاحه فيها.

- تشديد الرقابة على المال العام، ومتابعة المشاريع من قبل جهات قانونية لها مصداقيتها ونفاذ سلطتها.

- التشديد في العقوبات الموقعة على الفاسدين، وإفشاء أسمائهم، ونشر صورهم.

- إحصاء المال الخاص في وثيقة "من أين لك هذا؟"، والمطبَّقة في بعض الدول، قبل وأثناء وبعد ترك الوظيفة.

- نشر ثقافة النزاهة وحقنها في المناهج الدراسية ليتربى عليها النشء، ويتخذها الشباب قيمة أخلاقية.

- أن يترصَّد جهاز الرقابة المالية والإدارية للدولة، والادعاء العام، ما يحدث في المجتمع من سلوكيات فساد، ويُتابع مصادرها حتى الوصول إلى أصحابها لتقديمهم إلى العدالة.

وأخيراً.. فإننا نقول إنَّه لا يمكن لدولة أن تنهض، وأن تزدهر التنمية ويعم الرخاء فيها، إلا بأن تشيع النزاهة في كل مفصل من مفاصلها، وكل ركن من أركانها.