نتخيل ونحب.. فندرك الجمال

مدرين المكتومية

تخيَّل نفسك واقفا في شُرفة أحد الفنادق في مُنتجع ساحلي، وسط طقس معتدل وسماء صافية، كلُّ ما عليك فعله في تلك اللحظة الآثرة الفريدة هو أن تُغلق عينيك، وتأخذ نفسا عميقا يسري في أنحاء صدرك، فتتحول إلى طائر يطير في سماء اللا معقول واللا محدود.. هذا الفعل الإنساني البسيط مارسته بالأمس في منتجع ميلينيوم صلالة، خلال مُهمَّة عمل مُجهِدة، لكنني في اللحظة التي استرحتُ فيها استراحتْ أفكاري، واستراحتْ مشاعري المُتعبة، ودبَّت في نفسي حالة من الهدوء النفسي والاستقرار، وشعرتُ أنني أطفو فوق صفحة ماء تدغدغني أمواجها اللطيفة، فتدفعني إلى الشاطئ في هدوء وطمأنينة.

الخيال نعمة إلهية لبني البشر، فعلى المستوى الشخصي لا يمكنني التوقف عن الخيال وعن الحلم وعن الامنيات، خاصة في لحظة الصباح الباكر، التي تمثل لي طريقا ممتدا لا نهاية له، فتمنحني القوة والإرادة لمواصلة يومي بما فيه من تعب وإرهاق. ودائما أفكر إذا ما كانت لا أستطيع التخيل!! فكم ستكون حياتي تعيسة بائسة لا أمل فيها ولا تطلع لغد أفضل؟!

لذا؛ أعتقد بشدة أن صباحاتنا المزعجة ما هي إلا حصيلة نظرتنا للأشياء وبعض ترتيبات القدر التي لا بد أن نتحملها، لكن الحقيقة تكمُن في لحظة صفاء واحدة نقف فيها بسموِّ أرواحنا فنعلو على التفاهات والهوامش، ولا يجب أن نُمارس ذلك التخيل من شرفة فندق أو نافذة قصر منيف، بل على العكس تماما، أروع الخيال ما يأتي من داخل حياتنا البسيطة، من بين حاراتنا الضيقة أو في غرفة المعيشة، او حتى أثناء تناول وجبة غداء أو مشاكيك على الطريق، المهم أن نحلُم ونتخيل.

لكن أعود إلى شرفة الفندق، التي لم أكن وحدي هناك لأرى الحياة من منظور آخر، دون تفكير بأن هناك شيئا ما ينتظرني وعليَّ اللحاق به، إنما كان هناك غيري ممن يعتلون شُرفاتهم مثلي، فهذا يقرأ في كتاب، وذاك يرتشف قهوته، وهذه تمارس رياضة خفيفة كل صباح في شرفتها، وهذان زوجان يبتسمان وينظران لبعضهما البعض بنظرة ملؤها الحب والعطف والاحتواء. وأثناء ممارسة التخيُّل؛ إذ بي فجأة أبحث عن أغنية قديمة لطالما أحببتها، منذ أول يوم سمعتها، فأسرعت إلى هاتفي وبحثت في يوتيوب عن أغنية "تخيل" للفنان جون لينون، الذي كان أحد أعضاء فرقة البيتلز في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، ورغم أنني لست من أبناء ذلك الجيل، بل أصلا لم يكن أبي وأمي قد تزوَّجا، لكني دائما ما أفتش في الماضي وخاصة في الفنون، لأكتشف الجواهر المدفونة بين أشرطة الكاسيت أو الأسطوانات القديمة.

تأملتُ كلمات الأغنية التي أتوقف عندها في كل مرة أسمعها: "تخيل.. أن كل الناس يعيشون من أجل اليوم، تخيل أن كل الناس يعيشون في سلام، بإمكانك أن تقول إني حالم، لكني لست الوحيد، آمَل أن تنضم إلينا يومًا وسيصبح العالم كواحدٍ، تخيل أن كل الناس يتقاسمون كل العالم".

كان ليون يشدو بكلمات أغنيته وأنا أتخيله بقبعته ونظارته التي كانت موضة عصره، أتنفس هذا الهواء النقي في ذلك الصباح، وأتخيل أني أحيا في عالم مثالي يسوده السلام والمساوة، لا حروب ولا جشع ولا طمع ولا بحث عن الصعود على أكتاف الآخرين.

لذلك؛ أنتهزها فرصة لأدعو الجميع لكي يتخيلوا أنهم قادرون على الصفح والتسامح وحب الآخر مهما اختلفنا معه، دعُونا نُدرك جمال الحياة من حولنا، وكم ستزداد سعادتنا لو أنَّ اللحظة الجميلة التي نشعر بها على الرغم من بساطتها هي نفس اللحظة التي يعيشها الآخر في إحدى بقاع هذا العالم اللامتناهي.. دعونا نتخيل كم من الوقت أهدرنا عندما تركنا الحبل على الغارب لمشاعر الحقد والكراهية والبغض، وكم خسرنا من الأشخاص بسبب سوء الفهم وعدم الاكتراث.. دعونا نتخيل كم نحتاج لنصل بأنفسنا لمرحلة السمو وبلوغ السلام الداخلي والاستمتاع بالحب.. أعتقد أنَّ ذلك ليس مستحيلا، فقط نحتاج للنوايا الطيبة والإيمان الخالص بأننا لا نريد من هذه الحياة سوى العيش في سكينة واطمئنان وراحة بال.

إنني من شُرفتي الجميلة، وعلى أنغام جون لينون، استطعت أن أرى العالم بأبعاده المختلفة، وذهبت إلى خيالات بعيدة للغاية، لكنها أوصلتني في نهاية المطاف إلى التعرُّف على الإنسان في داخلي، ومن ثم تعرفت على الإنسان في مَن أُحبهم ويحبونني، رغم الظروف والاختلافات، لكني في آخر الرحلة وصلت إلى حالة السلام وتجاوزت مرحلة الصراع النفسي، وصرتُ أنعمُ بهدوء ربما يعتبره البعض غفلة، لكنه هدوء من نوع خاص.. فيا أيُّها المتعبون في الأرض، يا من تعبرون "في الميدان في انحناء منحدرين في نهاية المساء" لا تسمعون إلى أمل دنقل حين يقول: "لا تحلموا بعالم سعيد"، بل احلموا بالسعادة فلا بديل لها، وحققوها في نفوسكم، ونفوس أبنائكم، علموهم الحب، واغرسوا في نفوسهم السلام والتسامح والعفو عن الآخرين، وليرددوا: "إني صفحت عنك".. "إني صفحت عنك".. "إني صفحت عنك".. مع الاعتذار لأمل دنقل!