خطاب الشعب (2)

 

آليات صنع القرار الحكومي.. وماهيات تطويرها

 

د. عبدالله باحجاج

يستوقفُ المتابع لمضامين خطاب عاهل البلاد جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم -حفظه الله وأيده بنصره- مجموعة مبادرات مركزية تدخل في إطار التحديث السياسي المبرمَج، الذي ستصطبغ به مراحل العهد السياسي الجديد، وهى ذات آجال زمنية متفاوتة -قصيرة ومتوسطة وطويلة الأجل- حسب مضامين كل مبادرة وثقلها السياسي؛ بحيث يكون الفعل الآن هو استحقاق كل مبادرة في آجالها الزمنية المحددة، دون أن تتراكم، تجنبا للتعقيدات المستحكمة وتداعياتها.

والذي يشغلنا في الجزء الثاني من مقالنا "خطاب الشعب"، هو ماهيات الإنتاجات السياسية التي نستشرفها من التوجه السامي بدراسة آليات صُنع القرار الحكومي وتطويرها، وينبغي التركيز على التطوير؛ على اعتبار أن ماضي -وحتى واقع- آليات صُنع القرار الحكومي قد ارتبط بمرحلة لها ظروفها السياسية والتاريخية، ولا يمكن أن تُكرِّر نفسَها من جهة، ولأن متطلبات التحديث للدولة في سياقاتها الجديدة تحتِّم تغييرات جوهرية على أبنية مفاصل أساسية فيها؛ ومن بينها: "آليات صُنع القرار الحكومي".

ففي أي نظام سياسي في العالم، تكشفُ آليات صنع القرار الحكومي عن مدى ديمقراطيته من عدمها.. ومن هنا، يستشف وعينا السياسي توجيه عهدنا الجديد نحو دراسة آليات صنع القرار الحكومي وتطويرها، بوجود رغبة سياسية نحو تطوير نظامنا الديمقراطي، خاصة وأن تجربته التاريخية مؤهلة لمثل التطورات المقبلة.

والتوجُّه بدراسة وتطوير آليات صنع القرار الحكومي، يطرح في مضامينه إشكالية كبرى من منظورين أساسيين، تحتِّم الموضوعية إثارتهما لإغناء المرحلة الجديدة بالأفكار القابلة للتطبيق؛ الأول: يتعلق بغياب الآليات السليمة في صنع القرار الحكومي، والثاني أن استمراريتها -أي الآليات نفسها- لم تعد تتناغم مع التطورات المتلاحقة التي طرأت منذ العام 2014 من جهة، ومع مُستلزمات رؤية عمان 2040 التي من المقرر أن تنقل الدولة والمجتمع إلى آفاق غير مسبوقة.

فبالنسبة للمنظور الأول،  لو نظرنا إلى الماضي القريب، سنرى أنَّ آليات صنع القرار الحكومي قد أدت لإضعاف المجتمع في مجالات "عدم المساواة، وعدم العدالة، والمسؤولية الاجتماعية"، وتحميل المجتمع أعباء شبه حصرية لمواجهة الأزمة المالية بسياسات مؤلمة في ظل غياب أية تشاركية في صناعتها، وفي ضوئها -أي الآليات- تفجَّرت أزمات اجتماعية عديدة، ولا تزال تداعياتها قائمة.

وستكشفُ الدراسة حالة من العشوائية في آليات صنع القرار الحكومي، أحدثت حالة لا مبالاة بالقضايا الطارئة، تراكمت وشكلت حالات احتقان، وقد ترتَّب عليها كذلك تجميد أوامر وتوجيهات عُليا في حينها؛ مثل: توحيد منافع صناديق التقاعد، مما أبرز اختلالا في موازين المساواة بين موظفي الخدمة المدنية، ونتج عنها حالات من عدم الأمان للموظفين، وهذا ما رصدناه في مقالات سابقة عن المتقاعدين الذين أحيلوا للتقاعد بمزايا هزيلة وبرواتب ضعيفة، ولا يزال يعانون الآن أشد المعاناة.

وتتحمَّل آليات صنع القرار الحكومي مسؤولية كل الاحتقانات التي تواجهنا الآن؛ بدءا بقضية الباحثين والمسرحين، مرورا بالترقيات وهجرة الأموال الخاصة إلى الخارج، وانتهاءً بمنظومة الضرائب والرسوم التي تُثقل كاهل المواطنين، وفي الوقت نفسه هناك إصرار على تطبيق ضريبة القيمة المضافة عام 2021؛ فعلى أي أسس ومعايير قد تم صنع مثل هذه القرارات المصيرية؟

لا يُمكن أن تكون قد استندت إلى أية عملية علمية في اتخاذها، خاصة استخدام مهارات التفكير العليا والجماعية؛ مثل: التحليل والاستقراء والتقويم والاستنباط، ومشاركة الشركاء الدستوريين في نظامنا السياسي، وهى نابعة من استفراد حكومي بصنع القرار، وحتى في حالة هذا الاستفراد كانت تفتقر لتلكم المهارات، فصُنع القرار محوره البشر، وطبيعة الخلل هنا فيهم -أي البشر- في ظل غياب التعاون والتنسيق بين المؤسسات الدستورية المختلفة.

ومن هنا، نرى أنَّ دعوة جلالته لدراسة وتطوير آليات صنع القرار الحكومي، تلامس الجرح وتذهب إلى علاجه بصورة مباشرة وشفافية، وهى في المقابل تعكس إرادة سياسية لمرحلة جديدة، بأنه لم يعد احتكار صناعة القرار في بلادنا حصريا في الحكومة، وإنما إعلاءً لمبدأ التشاركية فيه.

لذا؛ نطالب بالاستعجال في الدراسة والانتهاء منها، ومن ثمَّ تطوير آليات صنع القرار الحكومي، فعامل الزمن هنا هو الحدث الأكبر الذي من خلاله سينقلنا إلى الشعور بالمتغير في إحداث التطور عِوَضا عن إغراقه في مُدد زمنية طويلة للدراسة، وتاريخنا معها، أنها تعلن، ولا نسمع شيئا عن نتائجها ولا عن تطبيقها، وهذا مفصل ميكانزمي نُعلِي من شأنه هنا، لكي يُؤخَذ به بعين الاعتبار، لأن طبيعة المرحلة الجديدة ينبغي أن يكون إطارها الزمني مقدسًا، من حيث الكشف عن التوجهات وسرعة تطبيقها.

لكن أين الخلل؟ هل في الآليات أم في النخب الوزارية أو المنظومة الوزارية؟ التساؤل يحاول أن يستبق الدراسة بهدف التأثير الإيجابي عليها، ويفتح منهجية البحث للتعرف على ماضي وواقع صنع القرار في السلطنة، ومنهما ستتضح مسارات التطوير الجديدة، وعندها ستبرز الحقيقة التالية: أن عملية تطوير آليات صنع القرار الحكومي تتم عبر تطوير البنى المؤسسية، كمجلسي الوزراء وعمان -المكون من مجلسي الشورى والدولة- بحيث يكون القرار تشاركيا فيما بينها جميعًا وفق هندسية سياسية تكون المؤسسة السلطانية سلطة حاكمة لكل السلط، وليست جزءا من السلط.

ويُشكل فصل رئاسة مجلس الوزراء عن المؤسسة السلطانية جوهر تطوير آليات صنع القرار الحكومي (وقد تناولناه في مقال سابق وأشرنا إليه في عدة مقالات لاحقة)، وهو من مُوجبات المرحلة الوطنية المتطورة التي تجعل لمجلس الشورى المنتخب دورا مفصليا في توجيه السياسات الحكومية ومراقبتها، وكذلك بقاء أو رحيل كل من أخفق في أداء مهامه الوطنية من الوزراء، وهذا سيجعل المؤسسة التنفيذية أكثر ديناميكية وحيوية، وأكثر فاعلية في مراعاة مجموع المصالح في البلاد.

وهذه الهندسة السياسية، ستحول الصراع الإيجابي بين قطاعات الدولة الثلاث (الحكومة والخاص والمدني) من جهة، وكذلك الصراعات الاجتماعية مع مختلف السلطات، من رأسية إلى أفقية.. وذلك على اعتبار أنَّ المؤسسة السلطانية ليست سلطة ضمن السلطات المستقلة، وإنما سلطة حاكمة لكل السلط كوظيفة سياسية ضمن وظائف الدولة الدستورية الجديدة، وما نطرحه هنا من مرئيات يُلامس التوجيه السامي لعاهل البلاد -حفظه الله- والرامي لدراسة آليات صنع القرار الحكومي وتطويرها؛ وذلك من منظور إغناء النقاش السياسي بماهيات تطوير هذه الآليات.

التتمة في الجزء الثالث...،

الأكثر قراءة