د. سيف بن ناصر المعمري
منذ شهرين قرأت كتاباً قديماً للروائي البريطاني جورج أورويل في مكتبة واترستون بمدينة جلاسجو كان حول القراءة ومُعاناتها في الفترة التي عاش فيها وكان عنوانه "لماذا أكتب".
وخلص أورويل في ذلك الكتاب إلى أنَّ القراءة والثقافة قد لا تكون أولوية لدى النَّاس في مجتمع ما؛ فهم يقترون في الإنفاق على الكتب مُقابل الإنفاق على الأشياء المادية الأخرى في حياته؛ ومن ناحية أخرى لا يجدون نشاط القراءة أكثر تفضيلاً مقابل أنشطة أخرى؛ قرأت هذا الكتاب في فرع المكتبة بشارع الساكيهول ستريت وهو مبنى مكون من أربعة أدوار، مليء بمُختلف الكتب الجديدة التي تخرج من المطبعة وتعرض مباشرة، وكان الناس الذين يمارسون عادة القراءة يملأون المكان، وأولئك الذين يشترونها يقفون طوابير على أماكن الدفع، وفي يد كل واحد منهم كتاب؛ هذا فضلاً عن توزع المكتبات العامة في هذه المدينة؛ حيث بلغ عدد مكتباتها العامة 38 مكتبة ومركزا تعليميا يقدم خدمات متنوعة للناس منها خدمات الاستعارة الورقية أو الإلكترونية، وأندية القراءة، والفعاليات الثقافية، واللقاء مع الكتاب المشاهير، وأماكن التعلم والدراسة، وغيرها من الخدمات الإلكترونية، وكنت أعتقد أنَّ هذه المدينة بكل هذا هي من أكثر المدن تجهيزا ثقافيا، وأن المملكة المتحدة هي الأفضل من حيث الاهتمام الثقافي، ولكن تفاجأت أنها ليست كذلك رغم إنفاقها وتوفيرها لمراكز الدعم الثقافي، فهناك دول تتفوق عليها لتكون الأمم الأكثر ثقافة.
تلك المُقدمة البسيطة لابد منها لتحديد معالم الأمة القارئة أو المثقفة التي ترى في المعرفة حقاً إنسانياً لابد من الاهتمام به مثل بقية الحقوق الأخرى كالصحة والتعليم والتوظيف والرعاية الاجتماعية وذلك من أجل الارتقاء بالإنسان واهتماماته وفكره، وأسلوب حياته، وتبعاً لذلك لا يُمكن أن تكون الأمة القارئة هي التي تتعرض موسمياً لوجبات ثقافية كمعارض الكتب، التي تتحرك فيها الزاجرة الثقافية لفترة قصيرة لا تتجاوز عشرة أيام فكيف لها أن تروي تلك الحقول المُتعطشة طوال العام؟ ومع أنَّ حركتها حتى لو لفترة قصيرة مصدر أمل إلا أن تلك الحركة محكومة بتحديات عدة ليس المقام مخصصا هنا لسردها سواء كانت مادية أو تنظيمية أو سياسية أو إعلامية، فلا أعتقد أنها لم تعد واضحة للعيان، ولكن ما يعنينا هنا أن نتعرف على الأمة المثقفة وسماتها كما ركزت إحدى الدراسات على ذلك، لنستلهم في واقعنا العربي من هؤلاء الآخرين الذين نتهم أننا منبهرين بهم، وأننا في الواقع أفضل منهم في كل شيء، هذا الشعور النرجسي نحو الذات منعنا من الاستفادة منهم رغم أنَّ عامتنا ومسؤولينا وحكامنا يجوبون بلادهم باحثين عن ما يفتقدونه في بلادهم من كل هذه السمات، ولو وجدوها لما شهدنا تلك الهجرات الموسمية لهم بالجملة إلى هذه البلاد.
إنَّ الدراسة التي أجراها جون ميلر رئيس جامعة وسط ولاية كونيتيكت الأمريكية حول أكثر الأمم ثقافة، لتصنيف الأمم ليس حول قدرة سكانها على القراءة، ولكنها وفق السلوكيات الثقافية لسكانها ومصادر الدعم لذلك أي البنية الثقافية، وتتضمن هذه المعايير عدد المكتبات داخل الدولة، والصحف المُتداولة، وسنوات التعليم، نتائج تقييم القراءة، وتوفر الكمبيوترات أي الأجهزة الإلكترونية، وكانت الدراسة بهدف تحليل بيانات من 200 دولة ولكن نتيجة عدم توفر الإحصاءات المرتبطة تم تحليل بيانات 61 دولة فقط، ولقد كشفت النتائج عن احتلال الدول الإسكندنافية المراكز الخمسة الأولى على مستوى العالم كأمم مثقفة، وجاءت فنلندا في المرتبة الأولى تلتها النرويج، ومن ثم أيسلندا، وجاءت الدنمارك رابعًا، ومن ثم السويد خامسًا، وكانت الولايات المتحدة الأمريكية في المركز السابع، والمملكة المتحدة في المركز 17، أما الصين فكانت في المركز (39)، ولقد خلص ميلر إلى نتيجة مهمة جداً وهي أنَّ هذه السلوكيات الثقافية لها علاقة مهمة جداً بنجاح الأفراد والأمم في الاقتصاديات القائمة على المعرفة التي تُحدد مكانة أي دولة أو أمة في المُستقبل.
وأكد الباحثون في هذه الدراسة أنَّ قوة وقيمة الاهتمام بالثقافة يتم الاهتمام بها كل يوم في العالم بشكل مختلف، فهناك أفراد ودول يقدمون تضحيات يومية جسمية من أجل أن يكون هناك مجتمعات متعلمة ومثقفة، بينما هناك مجتمعات لا تقوى على التضحية من أجل ذلك، وبالتالي تكون هذه المجتمعات التي تفتقد إلى السلوكيات الثقافية عرضة للاضطراب والخواء وتعاني من مشكلات صحية واقتصادية وسياسية، وتنتهك فيها حقوق الإنسان، على مستويات فردية وحكومية، يصبح المستقبل ضبابيا للجميع.
وأظهرت الدراسة أنّ إستونيا هي الأعلى من حيث عدد المكتبات، تليها لاتفيا ومن ثم أيسلند وبولندا، وبعد ذلك جاءت خامسًا النرويج، ولنا أن نتخيل دولا مثل إستونيا صغيرة وعدد سكانها لا يتعدى خمسة ملايين تحتل المركز الأول من حيث عدد المكتبات، ذلك يحمل إشارة جدا مهمة للذين يفقهون القول فيتبعون أحسنه من مؤسسات وحكومات لا تزال تخط مستقبلها على أيدي عرافين وكهنة يتنبأون بمستقبل بدون تضحيات، وبإنجازات دونما تغيير في أبجديات الواقع الثقافي والتعليمي.
وأكدت هذه الدراسة أنَّ تقدير القراءة والاهتمام بها، وبناء سلوكياتها عند الناس وتوفير مراكز الدعم المختلفة، ينصع قيمة مهمة تؤثر على بقية جوانب الحياة، فالثقافة ليست كما يعتقد البعض ترفاً لا عائد منه، ولذا لا داعي للإنفاق عليه بسخاء، فكل ما يتحقق إيجاباً أم سلباً لا يرتبط بثقافة الناس، وفي الواقع مثل هذه المُعتقدات لا مكانة لها حسب هذه الدراسة التي مسحت وتقصت أثر الثقافة في بناء قيم التقدم، وتحسين معتقدات النَّاس فيما يقومون به، ونظرتهم واحترامهم للآخرين.
إنَّ هذه الدراسة ونتائجها هي دعوة للسياسيين الجادين في بناء المستقبل في المنطقة وغيرهم من المعنيين في المجتمعات؛ لا تقصوا الثقافة من أجندتكم، فهي الطريق الآمن لتحقيق تلك الرؤى المستقبلية التي تحلمون بها، لا تهتموا بملء الجيوب والبطون، ولكن احرصوا على ملء العقول بالمعرفة، العقول العارفة المثقفة هي التي تصبح سيوفكم ومعاولكم للبناء أما العقول الجاهلة فتكلف تنميتكم ما لا تتوقعون، تعلموا من هذه الأمم، فالحكمة ضالة المؤمن، ولا ينتقص قدر دولة تتعلم من الآخرين، لكن النقص الحقيقي هو ألا نتعلم لأننا ندرك أنَّ ما نقوم به هو خير، وأفضل مما يقوم به الآخرون، أعيدوا النظر في مساحات الثقافة، فبعضها زحفت عليها أمواج المد الأحمر وما عدنا قادرين أن نرى من خلاله أي فعل مرتبط بالثقافة وما تتطلبه.