تحية للكويت في ذكرى تحريرها

 

عبدالنبي الشعلة

 

في هذه الأيام تحتفل دولة الكويت الشقيقة شعبًا وقيادة، ونحتفل نحن الخليجيين معها أيضًا بكل قلوبنا وجوارحنا، بعيدها الوطني وبذكرى يوم تحرير أراضيها وتطهيرها بالكامل من الاحتلال العراقي الغاشم الذي دام لخمسة أشهر عجاف.

 

وقبل أن نسترسل في الحديث عن هذه الذكرى أود أن أشير إلى واقعة سمعتها من مصدر موثوق، وهي أنّه بعد أيام من غزو الكويت وإحكام الجيش العراقي لقبضته واحتلاله لكل الأراضي الكويتية، طلب أحد سفراء البحرين في الخارج أن يزور البحرين في أسرع وقت ممكن ليسلم إلى قادتها رسالة شفوية هامة وعاجلة من الرئيس صدام حسين التي وصلته عن طريق أخيه غير الشقيق برزان التكريتي مندوب العراق آنذاك في الأمم المتحدة بجنيف، ولما وصل السفير أبلغ الرسالة التي كان فحواها أن للبحرين وضعا خاصا ومكانة مميزة في قلب الرئيس صدام، وأنّه يرغب في طمأنة قادتها بأنّ السطوة العراقية لن تطالها، ولن يصيب البحرين أي ضرر أو مكروه، وأنّه يضمن لها استمرار استقلالها وسلامة أراضيها، فكان جواب قيادة البحرين أن تحرير الكويت وسلامتها وسيادتها تسبق في هذه المرحلة وفي كل الأحوال سلامة البحرين وسيادتها، وأُمِرَ السفير بعدم العودة إلى مقر عمله.

نعود إلى هذه الذكرى فنقول إنّها ليست كغيرها من المناسبات المشابهة، ولا يمكن لها أن تمر مرور الكرام في كل عام دون أن تثير الأشجان والأتربة والذكريات الأليمة، ودون أن تقرع نواقيس الذاكرة الحزينة وتعيد إلى الأذهان الصور المرعبة لشعب أبي آمن مسالم تعرض لاعتداء سافر على أعز وأقدس مقدراته.

في هذه الأيام علينا أن ننفض الغبار عن الذاكرة لتستعيد الذكريات الموجعة؛ ذكريات السطو والغدر والمباغتة والتآمر ونكران الجميل، وعلينا أن نجري باستمرار مراجعة دورية لفواتير الأرباح والخسائر، كما علينا أن نتذكر ولا ننسى أن الشقيق والجار الجاحد يمكن له أن يغدر بك ويعتدي عليك، وأنّ هناك من بين الأشقاء من تنكر للحق والإنصاف، ومنهم من تخاذل وتلكأ ورفض أن يستنكر ويشجب العدوان، ومنهم من ساند العدوان ووقف إلى جانب المعتدي والمحتل طمعًا في تقاسم الغنيمة.

وفي هذه المناسبة بالذات وعلى الرغم من مرور ما يقارب الثلاثين عامًا على كارثة الاحتلال، فإنّ أحاسيس البهجة والغبطة والفرحة بالتحرير ما زالت تمتزج بمرارة الوجع وبذكريات وكوابيس أيام الاحتلال المزرية بعد أن اجتاحت بغتة وعلى حين غرة القوات العراقية أراضي الكويت الغالية في الوقت الذي كان فيه الكويتيون واثقين من جارهم ونائمين في أسرتهم، فاستبيحت سيادة وطنهم، وانتهكت كرامتهم؛ واستقر خنجر مسموم في قلوبهم وقلوبنا تاركًا أثرًا عميقًا يصعب إزالته بسهولة.

وحتى لا ننسى الدروس والعبر التي تمخضت عن تلك الجريمة فإنّ هناك الكثير من الأسئلة والتساؤلات التي يجب أن نعيد طرحها وتداولها ومراجعتها، وهناك العديد من المحطات التي يجب أن نكرر التوقف عندها ونحن على دروب الذكريات.

في هذه الوقفة نعود إلى طرح السؤال الجوهري والأساسي وهو ما الذي دفع المرحوم صدام حسين لارتكاب حماقة غزو الكويت؟ وما هو الخطأ الأكبر الذي ارتكبه أو العامل الأهم الذي غفل عنه وتجاهله أو لم يعمل له ما يستحقه من حساب عندما قرر غزو الكويت؟

كان صدام حسين يدرك بأن فراغا في قيادة الجماهير العربية كان قد حدث بعد وفاة الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر في العام 1970 وبعد اهتزاز مكانته وقامته بعد هزيمة حزيران 1967.

ولما تولى صدام السلطة في العام 1979 أصبح يبحث عن طريقة لملء ذلك الفراغ وعن دور قيادي يعزز مكانته في المنطقة، واعتقد بأن الفرصة قد حانت عندما قاطع العرب مصر وأنور السادات بعد قرار الأخير الانسحاب من ميدان العنتريات والمزايدات والتخلي عن خيار الحرب، فأبرم اتفاقية صلح مع إسرائيل استعاد بموجبها كل الأراضي المصرية التي استولت عليها إسرائيل واحتلتها في حرب 1967.

وعلى أثر ذلك دعا صدام حسين إلى عقد مؤتمر قمة عربي طارئ في بغداد للتصدي لخطوات الرئيس السادات وسياساته، وقاد من خلال هذا المؤتمر عملية مقاطعة مصر، وتزعم ما سمي بـ "جبهة الرفض".

وفي العام 1980 نشبت الحرب العراقية الإيرانية، وبعد انتهائها أصبح صدام ضحية لحالة من الوهم بما في ذلك اعتقاده بأنّه قد انتصر في هذه الحرب التي دامت لثماني سنوات كما انتصر من قبل الصحابي الجليل سعد بن أبي وقاص في "معركة القادسية" ضد الفرس التي دامت أربعة أيام فقط والتي انهارت بعدها الدولة الساسانية الفارسية العتيدة، أمّا "قادسية صدام" فقد انتهت بعد ثماني سنوات دون تحقيق أي مكاسب تذكر للعراق، اللهم إلا أنّها ربما لجمت أطماع النظام الإيراني مؤقتًا، لكنّها بالتأكيد لم تثمر عن أية مكاسب أو نتائج إيجابية ملموسة ومحسوسة بالنسبة للشعب العراقي الذي دفع ثمنًا غاليًا وتكلفة باهظة جدًا من الأرواح والأموال.

وكان صدام يريد قادة الخليج أن يقبلوا ويعترفوا بأنّه قاتل من أجلهم، وأنّه كسب الحرب، وأصبح قائدًا منتصرًا يستحق التبجيل والإكبار وتقبيل الأيدي، وأنّه قد حمى البوابة الشرقية للعالم العربي من الزحف الجارف للإيرانيين، وعليه فقد كان يتوقع من قادة الخليج عمومًا والكويتيين بشكل خاص أن يقروا بالمعروف والجميل والدَّين الذي يطوق رقابهم، وأن يسارعوا إلى تسديد ذلك الدين ودفع ثمن التضحيات التي تكبدها العراق من أجلهم. ولمّا لم يبادروا بذلك بالقدر الذي كان يتوقعه قرر أن يقبض الثمن بنفسه وبيديه.

تخيل صدام أنّ جيشه أقوى الجيوش وهو اعتقاد ليس مخطئًا برمته، لكنّها ليست الحقيقة، فالجيش الذي احتل الكويت انهار بصفوة رجاله وأفضل عتاده بشكل مزر ومخجل بعد أربعة أيام أيضًا من بدء معركة تحرير الكويت، وما أشبه اليوم بالبارحة!

اعتقد صدام أنّ الظروف الإقليمية والدولية توفر مناخًا مواتيًا وملائمًا يسمح له بتحقيق مآربه وتنفيذ خططه، وأن الدروب مهيأة وسالكة، وقد كان محقًا في قراءته إلى حد بعيد، إلا من ناحية واحدة فقط.

إنّ الفريسة المستهدفة كانت الكويت، وكانت بالفعل فريسة سهلة، وادعة آمنة، لا تقارن قوتها بقوة المفترس ولا تقوى على مواجهة قوة عسكرية مكونة من أكثر من نصف مليون جندي.

ثم إنّه لا خوف من ردة فعل الدول العربية الأخرى التي كانت غارقة في بحر من التشرذم والتصدع والانقسام.

وأمّا العالم برمته فقد كان مشغولا ومنهمكا ومشدودا إلى تجاذبات واهتزازات مرحلة التحولات والتقلبات المتسارعة التي كان يمر بها والتي كان من أهمها بداية تصدع وانهيار منظومة الاتحاد السوفيتي ودول أوروبا الشرقية وما أدى إليه ذلك من اختلال في ميزان القوى العالمية.

واستنتج صدام بذلك أنّ المعطيات والظروف كافة كانت مهيأة لابتلاع الفريسة.

لكن العقبة أو الصخرة الكبرى التي اصطدمت بها أطماع صدام، أو الشخص الذي لم يحسب له صدام حسابًا كافيًا كان المرحوم الملك فهد بن عبدالعزيز، الذي احتضن قضيّة الكويت منذ لحظتها الأولى، وأدرك خطورة الوضع، وقرر الوقوف في وجه طوفان العدوان والغدر والدمار؛ فعمل على تعبئة الرأي العام العالمي حكومات ومنظمات وشعوبا لهذه القضية المصيرية، وأطلق على الفور حملة دبلوماسية متشعبة غطت دول مجلس التعاون والمحيط العربي إلى المجتمع الدولي والتي كانت تهدف إلى إنهاء العدوان وإزالة آثاره والحفاظ على سيادة الكويت وسلامتها الإقليمية وعودة شرعيتها، ووضع الملك فهد على عاتقه وبيده زمام إدارة الأزمة بمساندة أشقائه قادة الخليج، وجند شبكات علاقاته الدولية، وسخر كل طاقاته وكل إمكانيات وموارد بلاده، وغامر وخاطر بكل شيء في سبيل تحرير الكويت وحماية دول مجلس التعاون من الأخطار والتهديدات العراقية، وتحمّل بل واجه تيارات وفتاوى مناهضة لمقتضيات واحتياجات تحرير الكويت، وجمع حوله قادة الدول الخليجية وعدد من الدول العربية التي قررت الوقوف إلى جانب الحق وعدد من الدول الصديقة على رأسها الولايات المتحدة الأمريكية.

وفي ظل تصدع موقف الأشقاء فإنّ الإبقاء أو ضمان موقف الأصدقاء والحلفاء احتاج إلى مهارة خارقة وجهود مضنية والكثير من التضحيات، فالقضية بالنسبة لهم لم تكن قضية مبدأ فقط ولكنها كانت تميل أكثر إلى جانب حماية وضمان مصالحهم وأهدافهم الاستراتيجية في المنطقة، وللمصالح رياحها؛ أي أنهم كانوا بالطبع على استعداد للانحياز إلى الجهة التي ستقدم لهم ضمانات أوفر لمصالحهم، وفي نفق هذه الأزمة الخانقة فإن التصدي للمزايدات والابتزاز احتاج دون شك إلى كم هائل من قوة الإرادة والحكمة والروية وهي خصال لم تكن تنقص الملك فهد وأشقاءه قادة دول مجلس التعاون.

وتم تحرير الكويت بفضل تصميم الكويتيين ووقوفهم وراء قيادتهم، وبفضل عزيمة وإصرار وشجاعة المغفور له بإذن الله تعالى خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز آل سعود طيّب الله ثراه وأشقائه قادة دول مجلس التعاون، فتحية لدولة الكويت الشقيقة في عيدها الوطني ويوم تحريرها وشكرًا للملك فهد ولقادة دولنا في مجلس التعاون.

الأكثر قراءة