المونولوج في السرد القرآني

محمد علي العوض

يُشكِّل الحوار والسرد معًا الهيكلَ العام للقصة، وإنْ كان السرد يقدم الأفعال فإن الحوار يقدم الأقوال؛ فهو بمكانة الروح التي تسري بين ثنايا العمل القصصي أو الروائي؛ فتدب فيه الحيوية والحركة.

وهو أداةٌ كاشفةٌ تنبِئ عن حركة شخصيات القصة ومواقفها وطريقة تفكيرها، ورُبما يمنح الحوار القارئ مَيزة التنبؤ بأفعال الشخصية، وتحليل سماتها النفسية وسلوكياتها؛ فهو يرسم صور الشخصيات وتقديمها من خلال الوقوف على الكوامن الباطنية (الأحاسيس والمشاعر)؛ بالاعتماد على ما يدور في النفس.

وينقسمُ إلى قسمين؛ الأول: يسمَّى حوارًا خارجيًّا والثاني: يسمى حوارًا داخليًّا أو باطنيًّا؛ والذي يمكن تعريفه بأنه خطاب بدون سامع أي بدون طرف آخر مُتلقٍّ، وغير ملفوظ أي بلا أقوال مسموعة من الطرف الآخر، تعبر به الشخصية عن أفكارها وما يعتملُ بداخلها من انفعالات وأحاسيس".. وبعبارة أخرى، يُمكن القول إنَّ الحوارَ الباطنيَّ هو حديث هنا يدور بين الشخص وذاته، ويصبح فيه المرسل هو المستقبل في الوقت نفسه.

وفي النقد الحديث، تَرِد عبارة الحوار الداخلي بعدة مُسمَّيات؛ منها: الحوار الباطني، والمونولوج، كما تندرجُ تحته أيضًا معاني الخيالات والهواجس والأحلام والرؤى، وحتى الانفعالات الداخلية ومناجاة النفس والدعاء؛ وإن كان البعض يعتبر أن الدعاء ليس حوارا باطنيا فهو يفرض طرفيْن؛ رب مستجيب وعبد مستجير؛ ولكن لو أمعنا التفكير قليلا لأدركنا أن الدعاء يسبقه حديث نفس وعرض حال داخلية؛ فالدعاء تسبقه لحظة تداع وحديث نفس أو تفكُّر يُذكِّرك بذنوبك وبحالك وفقرك أو ضعفك وخوفك. ودوننا قول دعاء موسى عليه السلام: "رب إني لما أنزلت إليَّ من خير فقير"؛ فبعد مساعدة الفتاتين بسقي أغنامهما لجأ سيدنا موسى إلى الظل، وأخذ يدعو ربَّه ويشكو فقره؛ ولأنَّ الفكرة تسبق النتيجة بديهي أن يفكر سيدنا موسى مليًّا في حاله ومعاشه، قبل أن يتوصَّل إلى نتيجة أنه فقير، ومن ثمَّ يجب عليه دعاء ربه بتسخير الرزق.. وبديهي أن تهيج عليه الذكريات فيتذكر بلده وأهله وقومه، وكيف أنه هرب من القوم الظالمين ناجيا بنفسه، وكيف تبدلت حاله من عيش القصور الفرعونية وخدمة الخدم والحشم إلى الغُربة، واللامأوى، والجلوس في ظل جدار ببطن خاوية أنهكها الجوع؛ كل هذا جعل لسانه يجُود بأسلوب خبري بلاغي يُفيد بالاسترحام والاستعطاف، وجعله يدعو: "رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير...".

ويزخر النص المقدس -القرآن الكريم- بعدد من المونولوجات والحوارات الداخلية الواردة على لسان شخصيات القصة، ومن ذلك الحوار الداخلي الوارد على لسان فرعون في قصة سيدنا موسى؛ فشخصية فرعون المتغطرسة حين شارفت على الغرق، وأيقنت أنها هالكة لا محالة، أجرتْ حوارا داخليا سريعا بينها وبين نفسها، وصلتْ فيه لضرورة إنقاذ نفسها بالتوجُّه إلى الخالق، فأعلن فرعون كامل خضوعه وتذلله لرب الأمواج صائحا: ".. آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين".

ومن النماذج الدالة أيضًا على الحوار الداخلي في القرآن الكريم: قصة صاحب الجنتين؛ فالآيات تصوِّر لحظة دخول صاحب الجنة إليها بمعيَّة رفيقه، ونستشف من الآيات مقدار سروره وفرحته حين رأى ما فيها من أعناب وخضرة وثمار، ففاخر صاحبه الذي معه بأنه أكثر منه مالا، وأنه أعز نفرا وحسبا منه؛ ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل وصل به الغرور والإعجاب إلى أن يحدث نفسه مستكبرا ومستنكرا: ".. ما أظن أن تبيد هذه أبدا"، ويمضي في الجُحود والغُرور أكثر؛ لدرجة إنكار الساعة: "وما أظن الساعة قائمة"، ويُمعن أكثر في حلقات مسلسل تكبُّره قائلا: "ولئن رُددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا" أي: حتى وإن رددت إلى ربي فسيعطيني في الآخرة جنة أفضل من جنتي هذه، فكان جزاؤه أن مَحَق المولى ثماره، وجعل مزرعته خاوية على عروشها.

وكذلك ما ورد في قصة مريم حين "... أجاءها المخاض إلى جذع النخلة"؛ فتمنَّت الموت قائلة: "يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا"؛ فقد تمنَّت الموت على أن يعرف الناس أن مريم العذراء قد حبلت وهي لم تتزوج بعد، ولم يمسها إنسان.

وأشار عطا الله عبيد في "جماليات الحوار ودلالاته في القرآن الكريم" إلى أنَّ تواتر الفاءات الثلاثة في مفردات "فحملته/فانتبذت/ فأجأها" الواردة في آيتي: "فحملته فانتبذت به مكانا قصيا/ فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا"، تدلُّ على توالي الأحداث ووقوعها دون إبطاء؛ الأمر الذي ينقل لنا بصورة واضحة مقدار معاناة السيدة مريم، ويجعلنا نتخيل حالتها النفسية في هذه اللحظة الحرجة التي تدفعها لتمني الموت وتفضيله على الحياة بما فيها من فضيحة الإنجاب بلا زواج.

أيضا من نماذج الحوار الداخلي في القرآن الكريم ما ورد من سرد قصة قابيل وهابيل، فبعد أن قتل قابيل أخاه، عجز عن مواراة جثمان أخيه "فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوءة أخيه.."، فأخذ قابيل يحادث نفسه ويلومها قائلا: ".. يا ويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوءة أخي".

كما تعد الآيات المعبرة عن مشهد يوم الحشر العظيم أحد مواضع محاورة النفس في القرآن الكريم؛ ففي سورة الكهف نقرأ: "ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها".. فالمشهد يصور تعجُّب المجرمين ودهشتهم من الدقة الربانية في إحصاء ورصد أعمال الخلائق؛ صغيرها وكبيرها، سرها وعلانيّتها، ويبدأ المجرمون المتعجبون من عظمة الكتاب في محاورة نفوسهم؛ ولومها؛ بدلالة مفردة "يا ويلتنا".

وعلى شاكلة ما سبق قوله تعالى: "ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا/ يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلانا خليلا". فالظالم هنا يحدث نفسه ويحاورها، وتفضي تلك الخطوة إلى الندم على اتخاذ فلان -الذي زيَّن له الباطل- صاحبا وخليلا.

كذلك يتعجَّب الإنسان مما يراه من أهوال يوم القيامة، ويطرح على نفسه سؤالا فحواه: مال هذه الأرض التي كانت قارة، ساكنة، ثابتة باتت الآن متحركة، متزلزلة، تخرج ما في جوفها من موتى؟ وقد أشارت الآيات: "إذا زلزلت الأرض زلزالها/ وأخرجت الأرض أثقالها/ وقال الإنسان ما لها" إلى هذا المشهد.