متابعات السرد والتاريخ!

 

يوسف عوض العازمي

"لما استعمل الرواة الكذب، استعملنا لهم التاريخ" - سفيان الثوري

قرأتُ عِدَّة مقالات حول علاقة السرد بالتاريخ، تناولت البنية المترتبة على ترتيب المرتَّب التاريخي بأسلوب أدبي، وقد سبق أن تطرقت للفكرة ذاتها وإن بمنظور مختلف، هنا علينا أن نعرف أولا "ما الذي نريده من التاريخ؟ ثم هل كتابة التاريخ ستكتب بشكل ذي صياغة إخبارية، على طريقة حصل كذا في الوقت الفلاني بالطريقة الفلانية، ثم نقلب الصفحة للحدث التالي؟ أم تتم صياغة الفكرة (الحدث الحاصل) بشكل يحمل من تقنية السرد الروائية مع عدم الإخلال بالشكل الموضوعي للحدث المزمع تأريخه، أطرح الفكرة بشكل آخر، أقصد هنا أن الحدث A أرفق معه السنة والشهر واليوم والساعة (إن كانت معلومات الوقت متوفرة)، ثم أتطرق للمناخ والطقس، ووصف أرض الحدث والسماء وقتها، وملابس عناصر الحدث، والسِّحنة، وكي أسهل الفهم، سأطرح مثالا" من الخيال:

((في مساء اليوم الثالث من شهر أبريل من سنة ألفين وخمسين، وفي طقس بارد نسبيا، بدرجة تترواح بين الرابعة والخامسة مئوية، وفي نهار مشمس وقع نزاع وصل إلى اشتباك بالأيدي تطور إلى استخدام السلاح الأبيض بين عمال قرويين في إحدى المزارع المنتجة للطماطم، وهي مزرعة تقع في منطقة 1، ويجاورها منطقة 2، وهي قريبة من مزارع منطقة 3، ويذكر أنَّ مساحة هذه المزرعة التي وقع فيها النزاع هي كذا، وتنتج هذه المزرعة عدة محاصيل زراعية، إلا أنَّ الإنتاج الأبرز هو ثمرة الطماطم، ونتج عن الشجار الدموي إصابة عدد من المزارعين، وقام عدد من المتواجدين بمحاولات فض الاشتباك إلى أن وصلت الجهة الأمنية المختصة)) انتهى.

فيما سبق من المثال، نستخرج عدة عناصر:

- تم ذكر التوقيت (فترة زمنية لليوم + تاريخ)

- ذكر الطقس وقت الحدث

- تمت تسمية الحدث بـ"نزاع تطور إلى اشتباك بالأيدي"

- أبرزت القصة أن الأداة المستخدمة في النزاع هي "السلاح الأبيض"

- وصفت المزرعة (المساحة/ المحاصيل)

- وجود جهة أمنية مختصة

إضافة إلى ما سبق، نلحظ صبغة موضوعية، اعتمدت على الناحية الأخبارية، ولم تتعامل كتابيا بشكل صياغة أدبية، فإن أردناها بشكل أدبي، أو روائي فقط تزيد الأسطر إلى الضِّعف، إنما قد يدخل بها عنصر تشويق، أو مقارنة أو حبكة يسكنها الكاتب بين السطور، وهذه هي الملاحظة على الروايات التاريخية التي تتحول إلى أعمال تمثيلية للمشاهدة (مسلسل/ فيلم/ مسرحية... إلخ).

في ظنِّي البسيط أنَّ الناحيتين لا مفر منهما، الموضوعية + الكتابة الأدبية، وبمضبوط يضبط الحبكة والصياغة الأدبية للحدث بما لا يخل بالموضوعية العامة للخبر أو الحدث التاريخي، أي ألا يطغى الحس الأدبي على الحدث الأساسي، وتفهيم وشرح المراد للمتلقي (قارئ/ مستمع/ مشاهد).

في الماضي القريب، ظهرت روايات أدبية خيالية الشكل، إنما لما تتفحصها بعد القراءة تجدها تركز على شكل من أشكال التاريخ، وتؤرخه بشكل غير مباشر، هناك من اعتبرها سيرة ذاتية مموَّهة بصبغة روائية، وهناك من اعتبرها تأريخا غير مباشر.. وفي الحالتين، تبرز أمامنا موانع؛ أهمها:

- الإحراج الاجتماعي

- الممانعات القانونية

وبخصوص ما سبق ذكره، يبرز سؤال مهم: هل قبل زماننا لم تكن هناك موانع كإحراج اجتماعي (من الكتب الشهيرة بأدب السيرة والتراجم كتاب: سير أعلام النبلاء)، أو أنه لم تكن هناك جهة مختصة أمنيا منظِّمة لقرارات أو توجيهات أو أوامر بخصوص إبراز أو التعتيم على حوادث تاريخية معينة، جواب هذه التساؤلات سيقودنا إلى فضاء أشمل، وأسئلة أكثر، وأجوبة ستكون فارعة الطول تاريخيا ولا شك!