محمد عمارة وجهد فكري متواصل

عبدالله العليان

سمعتُ منذ عدة أيام عن مرض الباحث والأكاديمي المصري الدكتور محمد عمارة، وهو ذلك المفكِّر الرائع، الذي اتَّسمت كتاباته بالعمق وسعة الاطلاع -شفاه الله وعافاه- وقد بدأ حياته الفكرية ماركسيًّا، في فترة المد القومي واليساري في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، مع أنه كان خرِّيج كلية دار العلوم المصرية العريقة، التابعة لجامعة القاهرة، وهي الكلية المتخصِّصة في الفكر الإسلامي، وقد تمَّ سجنه مع الشيوعيين في الضربة التي وجَّهها النظام الناصري إليهم في أواخر الخمسينيات من القرن الماضي.

وفي العام 1962، تم الإفراج عن غالبية الماركسيين، ومنهم د. محمد عمارة، بعد صدور القرارات الاشتراكية، وكان السبب الإفراج -كما يقول البعض- جاءت بعد تقوية العلاقات مع الاتحاد السوفييتي، وزيارة نيكيتا خروتشوف السكرتير العام للحزب الشيوعي السوفييتي الأسبق إلى مصر. وعلى الرغم من ماركسيته التي كان سببها انضمامه لبعض التنظيمات اليسارية، فإنه كان يُصلي ببعض الناس في السجن، وهو ربما يفرق بين الفكر الماركسي الاقتصادي، وبين الإيمان والعقيدة، وهذه ناقشها الدكتور مصطفى محمود مع السياسي خالد محيي الدين، بحسب ما قاله الماركسي البارز في الحزب الشيوعي المصري الدكتور محمود أمين العالم، ثم حصل للدكتور محمد عمارة مراجعات فكرية، وأصبح من كبار الكتاب والباحثين في الفكر الإسلامي.

ومن الكُتب التي ناقش فيها بعض الماركسيين، كتابه الموسوم بـ"التفسير الماركسي للإسلام"، وهو من المؤلفات التي رد فيها على كتابات د. نصر حامد أبو زيد، مع أن د. عمارة رفض محاكمة نصر أبو زيد، ورفض تطليق زوجته منه، واعتبر أن قضيته قضية فكرية "مجالها الحوار الفكري"، وليس ساحات المحاكم، وأنها ليست قضية قانونية، وهذه القضايا من المناقشات الفكرية، كما رد على كتابات بعض العلمانيين، وناقشهم رؤيتهم الفكرية في العديد من المؤلفات.

واهتم د. عمارة بقضية الحرية، وأعطاها الوزن اللازم من التقدير والاهتمام؛ لذلك جاءت رسالته في الماجستير وكذلك الدكتوراه، عن المعتزلة، واعتبرهم فرسان العقل؛ ففي رسالته الأولى "المعتزلة ومشكلة الحرية"، وهي رسالة الماجستير. أما الدكتوراه، وكانت بعنوان "نظرية الإمامة وفلسفة الحكم عند المعتزلة"، وتعرض د. عمارة لحملة فكرية من تيار المدرسة السلفية، سبب هذه المؤلفات، وفي غيرها من القضايا التي طرحها في الفكر الإسلامي، ويقول د. محمد عمارة في مقدمة كتابه "رسائل العدل والتوحيد": "وإننا إذا شئنا أن نجنب أمتنا وحضارتها المرجوة مأساة ذلك الانفصام الذي تشهده الحضارة الأوروبية الغربية اليوم ما بين التقدم في تطبيقات العلوم التكنولوجيا وما بين التخلف، إن لم نقل الانحلال والانحطاط، في القيم الإنسانية، اللذين يفترسان أغلب قطاعاتها الفكرية والبشرية، إننا إذا شئنا أن نجنب أمتنا وحضارتها ذلك الخطر، وتلك المأساة وآثارها المدمرة، فلا بد أن نلقي أشد الأضواء علي صفحات تراثنا العربي الإسلامي التي تؤكد ضرورة الربط ما بين الفكر والممارسة، والنظرية والتطبيق، والعقيدة والفعل، والإيمان والعمل؛ لأننا إذا استطعنا أن يكون تراثنا في هذا الباب منطلقاً لنا في هذا الطريق، كانت لنا إمكانيات النجاة مما يعاني منه الآخرون، مما يهدد روح حضارتهم وجوهريات إنسانهم بالتحلل والدمار".

لكن محمد عمارة، هذا المفكر غزير الإنتاج، على الرغم من أنه أعجب كثيراً في بداية حياته الفكرية بالمعتزلة، بكل مدرستهم الفكرية، إلا أنه أصبح يفرق بين بعض المعتزلة، وبين من تطرفوا في مسألة العقل، وبين من لهم رؤية متزنة تختلف عنهم، وقاربوا بين العقل والدين، دون شطط وغلو، لكنه لا يزال يرى أن المعتزلة لعبوا دوراً رائداً في الحضارة العربية الإسلامية، ونافحوا عن هذا الدين القويم، من بعض التيارات الفكرية، وأسهموا إسهاماً رائعاً في تأسيس رؤية عقلانية في الفكر الإسلامي، ويقول في كتابه "نظرية الإمامة وفلسفة الحكم عند المعتزلة"، الذي أضاف عليه بعض الفصول، وعنونه بـ"الإسلام وفلسفة الحكم": "لقد وجد المعتزلة أن السبيل إلى نصرة العقائد الإسلامية في صراعها مع النحل والمذاهب الأخرى يتطلب التسلح بذات الأسلحة التي يتسلح بها الخصوم، وفي مقدمتها أسلحة الفلسفة اليونانية في الجدل والبرهنة والحجاج. فدرسوا الفلسفة كي يدافعوا بها عن الدين، وجمعوا بين الفكر الديني الإسلامي وبين علوم الأوائل. فكان لنا منهم ذلك المزيج الجديد من الفلاسفة الإلهيين. وعلى حين كانت نقطة الضعف عند أهل السنة -خاصة أصحاب الحديث- هي عجزهم أمام الخصوم، لجهلهم بأسلحة الفلسفة التي رفضوا التسلح بها. كان إقدام المعتزلة على ارتياد هذا المجال هو السبب في قوتهم وقوة عارضتهم، والعامل الذي جعل منهم أبرز المدافعين عن الإسلام".

وكما يقول ألفريد جيوم المستشرق البريطاني، فإنَّ "قوة الحركة الاعتزالية مردها جهود أولئك الذين حاولوا أقصى ما في طوقهم إقامة علم الكلام الإسلامي على أسس ثابتة من الفلسفة، مصرين في الوقت نفسه على أن تكون تلك الأسس منطقية، ثم الانسجام بينها وبين الفلسفة التي يجب أن تدرس بوصفها من صميم العقيدة الدينية"، (ص: 178،177).

ومع أن د. محمد عمارة تخطى الثمانين من العمر منذ عدة سنوات، لكن مؤلفاته لا تزال تصدر، لذلك عندما تم توقيفه من رئاسة تحرير إحدى المجلات التابعة لمؤسسة الأزهر بسبب آرائه الفكرية في بعض القضايا السياسية، استمر في الكتابة والتأليف واللقاءات الصحفية في هموم الأمة ومشكلاتها.