ملتقى "صناعة الأثر في عصر الأزمات"

 

عبيدلي العبيدلي

بتنظيم من "جمعية اقتصاد الإلهام"، ولمناقشة موضوع "صناعة الأثر في عصر الأزمات"، انعقد في البحرين، "الملتقى العلمي لاقتصاد الإلهام"، الذي عرضت في جلساته الممتدة من 3 – 6 فبراير 2020، "أكثر من 50 محاضرة، وأقيمت 3 ورش عمل، قدمها باحثون من 34 دولة". وجاءت هذه الفعالية المتميزة في وقتها المناسب، إذ ينعقد الملتقى في فترة تمر فيها البلاد العربية بمرحلة من أكثر مراحل تاريخها المعاصر تأزمًا. تشهد على ذلك مجموعات الكوارث التي ولدتها الصراعات المسلحة التي وصل البعض منها إلى مستوى الحروب التي امتدت، كما هو الحال في لبنان ما يقارب من نصف قرن، دمرت خلالها مدن بأكملها، وتجاوز ضحاياها بين جريح وقتيل ومشرد، ومهاجر، عشرات الملايين من البشر، غالبيتهم من النساء والأطفال.

ولعل أوَّل ما يتبادر لذهن القارئ هنا هو تساؤل منطقي يبحث عن جدوى، عقد مثل هذا اللقاء. تأتي الإجابة على هذه السؤال في مطوية التعريف بالمؤتمر قائلة في هذا "الوقت ما يزال العالم يُعاني من نسبة خطيرة ومتضائلة من الذين لا يعرفون دورهم في الحياة، وما البصمة التي يريدون أن يتركونها... ومن خلال أكثر من 30 ورشة تم جمع ما يزيد على جواب واضح ومحدد لأكثر من 700 مشارك، هو هل تعرف ما هو الأثر الذي ستتركه في الحياة؟ (جاءت) النتيجة الصادمة أنه لم يزد عدد الذين يعرفون ما يريدون أن يحققوا من أثر على 3%".

وقبل التوقف عند مجموعة مختارة من الأوراق، إذ يصعب عرض مجمل مادة اللقاء الغنية في محتواها، في هذا الحيز الضيق المتاح، لابد من التوقف عند تلك المداخلات المتكررة، والثرية في أبعادها التي قدمها الدكتوران: محمد بو حجي، ودنيا أحمد، والتي كانت بمثابة تلك الإضاءات السريعة التي تمهد لكل جلسة، أو ورشة عمل من أعمال اللقاء، وترشد المشاركين في الجلسة نحو الطريق السليم للوصول إلى أفضل النتائج، نظراً لجدة موضوعي الملتقى: "اقتصاد الإلهام"، و"صناعة الأثر" على منظومة الثقافة العربية المعاصرة.

حرصت مداخلات د. بو حجي على غرس مفهوم اقتصاد الإلهام، بمعناه الاقتصادي/السياسي، بل وحتى الاجتماعي في أذهان الحضور، مركزًا على دور صناعة الأثر في مسيرة بناء منصات ذلك النوع من الاقتصاد، وبدورها عالجت د. أحمد هذه المسألة، لكنها تناولتها من زاوية أخرى، حاول من خلالها التركيز على مراحل تطور بناء اقتصاد الإلهام، والتعرجات التي يصادفها من يتولى التأسيس له، منوهة لتلك العلاقة المتبادلة التأثير بين اقتصاد الإلهام وصناعة الأثر.

أما بالنسبة للأوراق المُقدمة، فكان من بينها ورقة عضو مجلس الشورى البحريني رضا عبد الله فرج التي جاء في مقدمتها اجتهاد مميز لتعريف اقتصاد الإلهام وعلاقته بصناعة الأثر، إذ" يعرف اقتصاد الإلهام على أنه مزيج من الممارسات الملهمة التي تساهم في استكشاف مسارات جديدة ومتجددة في التطوير الاجتماعي والاقتصادي ويمكن لهذه المسارات مختلطة ومجتمعة أن تشكل روحا فردية أو مؤسسية أو مجتمعية جديدة تتميز بالمبادرة والابتكار والمخاطرة وعقلية مرنة تستكشف الفرص وتسعى لخلق التغيير وتتميز بالتركيز العالي في التنبؤ بالمستقبل مدفوعة بإدارة تغيير مستدامة تصنع الأثر ولا تركز على النتائج الشكلية فقط".

أما ورقة د. إبراهيم علي إبراهيم من السودان، التي توزعت على محورين الأول منهما نظري، أما الثاني فكانت مادته مُستقاة، على نحو مستفيض، من تجربة عملية تقوم على تطبيق مفاهيم ومكونات مجتمع دارفور في السودان على نحو خاص من أجل "تحول المشردين من متلقين للإعانات إلى منتجين".

على نحو موازٍ كانت ورقة د. محمد عمر بن عامر من جامعة بنغازي- ليبيا الموسومة "المحطات المؤثرة على المسار المهني لجيل النهضة، ودور الفكر في ربط المجتمع بمشروعات النهضة الاجتماعية -الاقتصادية"، غنية بمادتها العلمية، لكنها تميزت بمحاولة "استخدام التقنية في مكافحة الساد، مستندة على محاولة"التحكم في حصص الدقيق المدعوم من الحكومة في مقابل توزيع حصص الخبز للمواطنين بحسب منظومة البيانات، فلا يتمكن أصحاب المخابز من ممارسة الفساد في وجود شواهد تقنية على البيع والشراء"، المستقاة من التجربة المصرية.

واستعان بن عامر في سياق ربطه بين بناء اقتصاد ملهم وتنشئة الإنسان بمقولة للاقتصادي المسلم مالك بن نبي تقول "إن الاقتصاد ليس قضية إنشاء بنك هنا، وتشييد مصانع فحسب، بل هو قب ذلك تشييد الإنسان، وإنشاء سلوكه الجديد أمام كل المشكلات".  

 عرض مميز جاء في ورقة د. صادق العلوي، الذي حاول أن يربط بين صناعة الأثر وحواس الإنسان. ونجح العلوي بكفاءة عالية في إيصال فكرته من خلال قدرته على جعل الحاضرين يشاركون على نحو مُباشر، عن طريق بناء التساؤلات التي أثارها، ومطالبتهم بإعطاء أجوبة لها. وهو أسلوب يستمد قوماته من مرتكزات اقتصاد الإلهام، يكرس مكونات صناعة الأثر بشكل ملموس.

قد يبد "اقتصاد الإلهام"، و"صناعة الأثر" التي يتركها خلال بناء مكوناته، مفهومان طارئان، أو بالأحرى جديدان عند تناول المدارس الاقتصادية، لكنهما آخذان في شق طريقهما بسرعة، ربما تبدو لنا شبه مذهلة، إذ أصبح كلاهما، كما يقول د. عمر سالم المطوع، من "الأدوات الرئيسية المعمول بها  حاليًا في بعض الدول المتقدمة وذلك بهدف بناء الأفراد والمجتمعات وتغيير المفاهيم وتقويم أي تشوهات قد لا تتماشى مع الرؤية والأهداف  التي تتبناها تلك  الدول والمؤسسات وأصحاب النفوذ، لذا فإن صناعة الأثر وإدارته وقياسه يحتاج إلى طريقة تفكير عميقة ولغة مشتركة بين أصحاب القرار تتجاوز مستوى النتائج وتطمح إلى ما هو أبعد من ذلك من آثار".

ولعل أكثر معالجة صناعة الأثر في الأدب العربي المعاصر، هو ما جاء بقلم الكاتب جمال جاسم أمين، في معالجته لأحد نصوص الكاتبة أحلام مستغانمي يقول "في مرثية ترد لأحد أبطال الكاتبة أحلام مستغانمي، نقرأ الجملة التالية: (هذا الذي مات، صديقي الذي يوارونه في هذه اللحظة تحت التراب. كان يؤمن أيضاً بجدوى الكتابة). هنا إشارة صادمة إلى كثافة المحو الذي لا تسعفه الكتابة أثرا! بل إن في هذه المرثية سؤالا ضمنيا مفاده: هل الكتابة وحدها تصنع الأثر؟ وما الذي يبقى فيما بعد؟"