د. صالح الفهدي
عُرفت السياسةُ بأنها ذاتُ وجوهٍ، وليست ذاتُ وجهينِ وحسب..! بيدَ أن تلكَ ليست قاعدةً في السياسةٍ ولا عقيدةً لها، إنَّما هي أساليبُ في إدارتها، بحسبِ العقولِ التي تديرها، والمصالح التي تبتغيها، والأُسس التي تنطلقُ منها.
غيرَ أنَّ عمانَ لها في السياسةِ وجهٌ واحد، وجهٌ لا يتقنَّع مهما كانت مرارةُ القرار السياسي، ومهما كانت دواعيه، ونتائجه، وتلكَ هي كما أحسبها مزيَّةٌ عظيمةٌ ليست يسيرة إلاَّ على من مَلكَ قِيادَ أمرهِ، وأحكم توجيه دفَّةِ سفينهِ، ووضعَ نفسهِ موضعِ التقدير.
ومرجعُ ذلك هو أنَّ عمانَ قد أقامت لها مباديءَ مكينةً في السياسة، فسياسةٌ بلا مباديءَ هي مما يدمُّر الإنسان –كما يقول المهاتما غاندي- فالمباديءُ هي الطريقُ الواضحُ المستقيم إلى الغايات، المحفوف بالسياجِ القوي حذر الانحراف نحو المجهول.
وإذا قسنا ذلك على المستوى الإنساني فإننا قد نتساءل عن الدافعِ وراءَ أن يكذبَ أو ينافقَ وجيهٌ يملكُ مرتبةً عُليا، ونسبٌ عريقٌ، ومَكنةٌ في النفوذ، وقرارٌ في السلطة؟! ولَم أرَ شخصياً من سبب إلاَّ أنه يفعلُ ذلك لخللٍ في طبيعتهِ، وهشاشةٍ في عريكته، وازدواجيةٍ في أفكاره.
والأمرُ نفسهُ يمكنُ إسقاطهُ على الدول، فهي في النهاية كيانٌ إنساني في صورةٍ مكثَّفةٍ ولكن أضخمُ حجماً وقدرةً، فالدول التي لا تثبتُ على وجهٍ واحدٍ، بل تتنقَّلُ من وجهٍ لآخرٍ، إنَّما هي غيرُ مأمونةِ العلاقاتِ والعهود، وفقَ ما يقول الشاعر:
ولا خيرَ في ودِّ امرءٍ متلونٍ .. إذا الريحُ مالت مالَ حيثُ يميلُ
ولا تنقصنا الأمثلة في ذلك، فبعضُ السَّاسةِ يحضرون المؤتمرات الإقليمية أو الدولية، ويقطعون الوعود فيها ثم ينكثونها فورَ خروجهم منها، ويغسلون أياديهم من حبرِ الأقلامِ التي وقَّعوا بها التزاماتهم في مقرراتها..!
أمَّا عمانُ- ولستُ هنا مُقاداً بعاطفتي الوطنيةِ إنَّما بموضوعيةِ البصيرة- قد كانت دائماً ذاتُ وجهٍ واحدٍ في تحقيق مبادئها التي قامت عليها، سواءٌ عليها قوبلتَ بالرضا أو الغضبِ من لدن الآخرين، إنَّما لا تريد لنفسها غيرَ وجهٍ واحدٍ، مع إدراك بصيرتها الحصيفة بمتقلبات السياسة، فهي تُدركُ على سبيل المثال أن السياسة ليس فيها عدو دائم او صديق دائم إنما مصالح دائمة كما يقول ونستون تشرشل، وهي تعلم بأن السياسة ليس فيها ما يسمى بقطعِ العلاقات، إنَّما حوارٌ دائمٌ، وحديثٌ متصل، وهي تؤمنُ بأنَّ جلسةً غير رسمية يسودها الودُّ على كوبٍ من الشاي، تحلُّ أزماتٍ، وتعالجُ مشكلات، وتمنعُ حروب.
ولقد بدت صورة "الوجهِ الواحدِ" لعمان بارزةً ليس في عزاءِ مؤسس عمان الحديثة جلالة السلطان قابوس بن سعيد بن تيمور- طيَّب الله ثراه- وإنَّما في حياته، حيث يلتقي الخصومُ والفرقاءُ في عمان، ذلك لأنَّ عمانَ قد مَلكت وجهاً واحداً للجميع دون أن تُناور هذا بقناعٍ، وتخادعَ ذاك بآخر..! وأساسُ ذلك ومرجعه مجموعةٌ من القيم الأصيلة في السياسة العمانية، وعلى رأسها السَّعي إلى السلام، بحيث أصبح بالنسبة لعمان مذهباً آمنت به، ومنها النوايا الحسنة التي كانت دائماً هي الأغصان الخضراء التي تمدُّها إلى العالم.
إن مقولة باعثِ نهضتها الحديثة رحمةُ الله عليه "أريدُ أن أنظر إلى الخارطة ولا أجد بلداً لا تربطه صداقة بعُمان"هي الفكرةُ الأساسية التي اهتدت على قبسها السياسة العمانية، وهي فكرةٌ تنتمي للتراث السياسي للإنسان العماني الذي جاب شرق الأرضِ وغربها لا ليشعلَ الحرائق، ويفسدَ في الأرض خراباً، ولا ليبث الفتنةَ بين الشعوب، ولا ليسلب حقوق الأمم في تقرير مصائرها، وإنَّما ليمدَّ لها أيادي الصادقة الدافئة، التي لا يمكن أن تدسَّ خنجراً وراءَ ظهرها، ولا مكيدةً داخل أكمامها.
وسياسةٌ لا تخفي أوجهاً مختلفةً هي سياسةٌ ذات مصداقية، رغم ما يعتورُ السياسة من سوءِ ظنٍّ دائمٍ، أو تفسيراتٍ مغلوطة، أو تحميلِ ما لا يحتمل، إلاَّ أن التاريخ سجلٌ شاهدٌ، يفصحُ عن النوايا، ويكشفُ عن الخبايا، كما يقول طرفة بن العبد "ستبدي لك الأيام ما كنتُ جاهلاً"، فلا يمكنُ لسياسةٍ ذات نوايا خبيثة أن تظلَّ مخبوءَةَ السرِّ طوال الأيام، بل أنها ستكشفه وإن ظنَّ أنَّه مخفيٌّ عن الناس، ففي ذلك يقول زهير بن أبي سلمى "ومهما تكن عند امرئ من خليقة// وإن خالها تخفى على الناس تُعْلَمِ".
بالوجهِ الواحد واجهت عمان السَّخطَ والتذمر، وبه مدَّت أغصان السلام.. بالوجه الواحد تحمَّلت المكائدِ والضغائن، وبه أظهرت الصفح والعفو والسماح .. فالوجهُ الواحدُ هو عقيدةُ السياسة العمانية التي ستستمر بمشيئة الله صلبةً، متينةً، متماسكةً، لإيمانها بأنَّ الوجهَ الواحد خيرٌ من سبعينَ وجهاً لا يؤمنُ مكرها، ولا يدوم عهدها ..
هذه هي عمان.