سنابل وحوافر

 

محمد علي العوض

 

ليس هناك كلمة "منتهية الصلاحية" تستعمل مرة واحدة قبل أن تُرمى؛ لأنّ الكلمة تملك خاصية "إعادة التدوير" وقابلية الشحن بالدلالات المختلفة. والبراعة تكمن في قدرة الشاعر أو الأديب على استعمال هذه الكلمة في سياقات عدة وفق أسلوب يُجسّد أفكاره ويعبّر عن غرض الكتابة.

يحدث أحيانًا أن تقرأ أو تسمع كلمة فلا تلقي لها بالا بينما ذات الكلمة تسمعها في سياق آخر فتخلب لبك وتسرق إحساسك. وهذا بالضبط ما عناه عدنان قاسم حين قال إنّ التأثير الذي تولده الكلمة هو عبارة عن توفيق بين أحد تأثيراتها الممكنة والظروف الخاصة التي توجد بها".. ففرق بين أن تقرأ صيغة "حصدنا سنابل القمح الذهبية" وبين صيغة "نحن سنابل صادقة كلما دهستنا الخيول نبتنا على الحوافر". والفرق هنا يتجلى في ما تركته كلمة "سنابل" في الصيغة الأخيرة من أثر جمالي ونفسي على المتلقي حين تمّ منحها صفة الصدق التجسيدية؛ وتبدت تلك الجمالية أكثر من خلال التجسيم الذي لحق بمفردة "الحوافر" فأصبحت حوافر الخيل تربة صالحة لنمو السنابل فيها. إذ إنّ اللغة مجموعة من الشحنات المعزولة، وإدخال بعضها في تفاعل مع البعض الآخر كما في مختبر كيماوي هو ما يطلق عليه "الأسلوب".

هذا التفاعل يتم عندما تتحول هذه المشاعر والأحاسيس والأفكار وكل العناصر الذهنية والشعورية إلى عناصر لغوية، ويضحى الغوص في البناء الشعري للقصيدة هو غوص في الكيان النفسي والفكري الكامن في أبياتها، وبذلك تصبح اللغة في الشعر كما يصفها محمود الربيعي "غاية في ذاتها".

وهذا قريب من قول صلاح فضل بأنّ الأسلوب هو الشعور وحركة النفس منقولة إلى اللغة طبقاً لقواعد التنظيم الجمالي، وكل خاصية لغوية في الأسلوب تطابق خاصية نفسية، فالقول بجانب أدائه المعنى -كما يرى شكري عياد- ينقل إلى متلقيه اتجاها شعوريا معيناً؛ فجملة "وأخيرًا لاح الفجر" تعطي انطباعا سعيدًا وتوحي بالفرج بعد عسر أو طول انتظار؛ والكلمة المفتاحية التي منحتنا هذا الانطباع هي كلمة " أخيرا".

وشاهد ذلك أنّ الإبداع يتأتى من خلال انحراف اللفظة، ولا يقصد بالانحراف هنا الميل عن السويّة، بل انحراف عن المعنى السطحي المتعارف عليه إلى معنى عميق آخر أكثر توقدا وجمالا، وببساطة يمكن القول إن الانحراف هو ابتعاد عن السياق المألوف وإنشاء سياق جديد آخر، فربّ كلمة لا تألفها في سياق ما؛ تشدك في سياق وموضع آخر عندما تأتي على شكل مجاز أو استعارة؛ فمفردتا الظلمات والنور الواردتان في آية (كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور) ربما لا تقف عندهما كثيرا عندما تردان في سياق ظلام الليل ونور النهار، ولكن تقف عندهما عندما يأتيان على هيئة المجاز اللغوي وهو الاستعارة، فلفظ الظلمات في الآية استعمل لمعنى الضلال، حيث شُبّه الضلال بالظلمات، ومثلها كلمة النور جاءت للدلالة على الهداية والإيمان.

فالكلمة عندما يتم توظيفها ببراعة تصبح دالا -إشارة- مكتنزة بالدوال؛ أي المعاني، لاسيما أنّ "الدلالة المعجمية للكلمة قابلة أصلا للتشكل والتغيير، حسب وضعها النحوي إذ إنهّا دلالة متحركة غير ثابتة". والأديب الماهر هو من يفطن لهذه الطاقة الكامنة في الكلمة ويحاول توظيفها للتعبير عن فكره وإيحاءاته مثلما فعل محيي الدين فارس في قوله:

ذات مساء عاصف..

ملفع الآفاق بالغيوم..

والبرق مثل أدمع تفر من محاجر النجوم

والريح ما تزال في إطلالنا تحوم

وتزرع الهموم

واختبأت حتى طيور الغاب في مخابئ الكروم

كالطفل خلف أمه الرؤوم..

فالشاعر هنا يرسم صورة محفوفة بالمخاطر والهموم، وتبعث كلمات "عاصف/ ملفع/ الغيوم/ البرق/ أدمع/ تفر/ تحوم/ الهموم/ اختبأت" على القلق والوحشة، وقد نجح فارس في استمالة المتلقي وجعله من خلال المفردات يشعر بما تكتنز به القصيدة من اضطراب وقلق وصورة تنذر بعدم الراحة.

ويحدث أن يلجأ الشاعر أحيانا إلى توظيف كلمة واحدة فقط لإبراز قيمة معينة أو غرس شعور ما في نفسية وذهنية المتلقي، ومثال ذلك ما ورد من تكرار في قصيدة "إلى شعبي" للدكتور تاج السر الحسن:

 

أنا معك

إن لفّني البُعد وصمت الحزن والحلك

أنا معك

أغنيتي عبر الثلوج والجبال تتبعك

وكل ما أملكه من الأشواق لك

شعري معك

قلبي معك

خطوي معك

فالملاحظ هنا أن لفظة "معك" تكررت خمس مرات، الأمر الذي يوحي بسيطرة مشاعر الانتماء للشعب على أحاسيس الشاعر، ولم يكن التكرار هنا بسيطا في وحدة موضوعية واحدة فقط أو صورة شعرية منفردة، بل تكرر في عدد من المشاهد والصور؛ فالشاعر يقول لشعبه أنا معك وجزء منك حتى لو باعدت بيننا المسافات والأحزان، ويقول لشعبه إن أشعاري تعبر الفيافي والثلوج والجبال حتى تصل إليك، وأنّ المسافات لن تقف حائطًا دون النشيد، وسيظل ولاؤه وانتماؤه لشعبه دائما معه طالما كان قلبه خافقا بين الضلوع.

والوصول إلى أعماق الخطاب الأدبي وعناصره الوجدانية والفكرية سواء كان النص شعرا أو نثرا لا يتأتى من خلال معاني اللفظة وحدها؛ بل من خلال بنيتها أيضا وما تتضمّنه من مقاطع صوتيّة وجرس، ولعل هذا يفسر سر العلاقة بين الأسلوبية وعلم اللغة، لأنّ الأسلوبية في أبسط توصيفاتها تؤسس دراستها للنص من خلال مستويات علم اللغة الحديث. فهي تتناول بنية النص المكونة من الصوت والكلمة والجملة. لذا يحضر صوت الحرف والتنغيم في مقدمة الأساليب والأدوات التي يستعين بها الأدباء ولاسيما الشعراء لتجسيد أفكارهم ومشاعرهم. ومعروف أنّ الصوت بما له من طاقات إيحاء وجماليات تنغيم له مزية التأثير على نفسيات المتلقي، فالشاعر/ المُرسِل حين يعمد إلى انتقاء الكلمات متبوعة بأجراسها المقصودة فإنّه يهدف إلى نقل أبعاد حالته النفسية إلى المرسل إليه.

ومن ذاك ما قاله الشاعر السوداني صلاح أحمد إبراهيم في قصيدة بين "مبوتو ومنولفو":

هل سمعتم آخر الليل وقد رانَ على الناس الوسن

هل سمعتم سنّة السكين في متن المسن

فالسّمع كما يقول مركز أحمد في كتاب "الصورة في الاتجاه الواقعي في الشعر السوداني الحديث" لا يملك إلا أن يستجيب لجرس السينات المرفود بجرس النونات، ويربط بينه وبين صوت السكين وهي تُسن في المسن – المبرد- فهذا التكرار يوحي بالحالة الشعورية للشاعر والتي تكشف عنها بصورة واضحة الأبيات التالية لما سبق:

ورأيتم ضاويا.. عانٍ.. وحيد

عاري المنكب في رسغه أنياب الحديد

والجراح الفاغرات الشدق عضت كل شبرٍ في البدن

هدأ الأحياء إلاها، وقد ران على الناس الوسن