عبيدلي العبيدلي
قادت مثل هذه الاكتشافات المشار إليها في الحلقة الأولى إلى مجموعة من الاصطفافات الإقليمية التي تقف وراءها قوى دولية، تتصدرها روسيا والولايات المتحدة. وجاء في مقدمة تلك الاصطفافات تشكيل "منتدى غاز شرق المتوسط" في القاهرة، في التاسع عشر من يناير 2019، الذي شاركت في تأسيسه دول مثل مصر وإسرائيل واليونان وقبرص اليونانية وإيطاليا والأردن والسلطة الفلسطينية، والذي لم يغب عنه أيضا "ممثلون عن الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة والبنك الدولي، فيما استُبعد منه كل من تركيا ولبنان وسوريا وقبرص التركية". وقد حظي هذا المنتدى بمباركة صريحة من الولايات المتحدة، التي لم تخف حرصها على توفير أشكال الدعم كافة له، بما يحقق ما يحق له أفضل مقومات النجاح والحماية في آن.
وليست واشنطن هي القوة العظمى الوحيدة التي سارعت إلى دس أنفها في ساحة ذلك الاصطفاف، إضافة إلى الدول المطلة على البحر المتوسط، فقد شرعت موسكو في التكشير عن انيابها، من خلال حضورها في الساحة السورية، وعن طريق تجيير مصالحها المتبادلة مع أنقرة أيضا. ولو حاولنا تشخيص أبرز البؤر التهابا في منطقة البحر الأبيض المتوسط، وأكثرها احتمالا لتأجيج الصراع، فيمكن تحديدها في المناطق التالية:
"عمليات ونوايا التنقيب عن الغاز في شرقي المتوسط التي أعلن عنها، مؤخراً، (التي صبت زيوتها على) نيران الأزمة الإقليمية المحتدمة التي يشترك فيها كل من إسرائيل ولبنان وتركيا وقبرص واليونان ومصر وحتى روسيا.
الخلاف الناشب بين الكيان الصهيوني ولبنان "على جزء من حقل غاز يقع على حدود البلدين، ورفض تركيا اتفاقية ترسيم الحدود الموقعة عام 2010 بين قبرص وإسرائيل، على اعتبار أن الجزيرة لا يحق لها البدء في أية عمليات تنقيب طالما ظلت أزمة انقسامها قائمة". واعتبر لبنان أن تلك "الاتفاقية تعدت على ما يقارب 850 كم من المنطقة الاقتصادية الخالصة الخاصة بها".
النزاع المتصاعد -الذي بات يأخذ أشكالا متعددة ومعقدة- بين مصر وتركيا، عندما أعلنت إسطنبول عن عزمها على "بدء التنقيب عن النفط والغاز شرقي البحر المتوسط في المستقبل القريب، ورفضها اتفاقية ترسيم خط الحدود البحرية بين القاهرة وقبرص الموقعة عام 2013، باعتبار أنها تمس بحقوقها الاقتصادية بمنطقة شرقي المتوسط".
وصول تركيا إلى اتفاق مع الحكومة الليبية في طرابلس، يهدف "إلى حماية حقوق الدولتين ضد أي (تعديات) من أطراف أخرى في المنطقة. وحديث أنقرة عن عزمها على "نشر أنظمة إس-400 الصاروخية الدفاعية التي تنتظر تسليمها من روسيا على طول الساحل الجنوبي للبلاد، بالقرب من السفن الحربية التي تراقب عمليات استكشاف مصادر الطاقة قبالة سواحلها".
مسارعة موسكو إلى الإعلان بأنَّ الإشكالات لا تقف عند الحدود الجغرافية للبحر الأبيض المتوسط؛ حيث نجد أنه "بالرغم من أن الغاز في شرق البحر المتوسط لا يشكل بديلاً عن الغاز الروسي ولا يزاحمه، إلا أن موسكو تريد أن تضمن احتكارها السوق الأوروبية من خلال حضورها أيضا في أي مشاريع غاز مكملة أو بديلة بحيث لا يؤثر ذلك سلبًا عليها".
تمسك واشنطن بمُعالجة الأوضاع في هذه المنطقة من زاوية أكثر اتساعا وشمولية؛ حيث تربطها مع تبني مواقفها في تناسق مع الإستراتيجية التي ترسمها لمنطقة الشرق الأوسط عموما. فتدرجها في إطار تلك الاستراتيجية القائمة على ثلاث ركائز أساسية؛ هي: حماية أمن الكيان الصهيوني، ضمان تدفق النفط بالكميات التي تحتاجها أسواقها، وبالأسعار الذي يقبله اقتصادها. ويكشف ذلك الموقف عن "إصرار أمريكي على تشكيل محور شرق أوسطي على قاعدة توسيع حلفها التقليدي فيه، وذلك للدخول المريح الى عصر الغاز، لكن دون هذا المرام استمرار الصراع العربي الإسرائيلي الذي لم تتمكن دول الخليج على أهمياتها الاقتصادية والدينية من إلغائه".
رصد كل مفجرات الصراع، كما هو أعلاه، التي ربما تكون هناك أخرى تفوقها عددا وأهمية، وحصر تداعياتها، يدفع المتابع نحو نقطة في غاية الأهمية هي آبار الغاز في شرق المتوسط، التي أصبحت، بموجب تداخلها مع المكونات الجيو-سياسة للمنطقة قادرة على إعطاء الصراع على الغاز في شرق المتوسط أبعادا متداخلة، تتفاعل فيها عناصر السياسة والاقتصاد، سوية مع الأمن، بل وحتى القانون. وهذا بدوره، لا يضاعف من تعقيدات الصراع، بل ما يضع المنطقة برمتها على برميل بارود قابل للاشتعال في أية لحظة غير متوقعة. حينها لن يكون في الإمكان حصر الصدامات المحتملة في نطاق القوى المحلية، بل ستتسع دائرة الحرب المشتعلة كي تزج في أتونها قوى عالمية ستجد نفسها، ودفاعا عن مصالحها المباشرة منخرطة، بشكل أو بآخر في معاركه، إما بشكل مباشر، أو الإيعاز لمن يقوم بذلك الدور بالوكالة عنها.
ربما سيكون غاز شرق المتوسط عود ثقاب إشعال تلك الحرب التي لا ينبغي استبعاد اندلاع معاركها في أية لحظة ممكنة، وبسبب حدث قد يبدو، ايس ذي علاقة مباشرة بذلك الغاز، لكنه على العكس ممن ذلك في حقيقة الأمر. هذا ينقل الصراع من داخل بواباته المغلة كي يصبح صراعا مفتوحا على كل الاحتمالات الممكنة.
ولربما ينبري من يقول إنه طالما أن القوى العظمى باتت ضالعة بشكل مباشر في ذلك الصراع، فمن غير المنطقي وضع انفجار الأوضاع في صدامات عسكرية من بين قائمة الاحتمالات الممكنة، لكن تطور الأوضاع خلال النصف القرن الماضي، تؤكد أن مثل ذلك السيناريو قد تكرر في أكثر بلد من بلدان الشرق الأوسط، وآخرها ما يجري اليوم في العراق وسوريا.
ولا يفوتنا هنا، ونحن نتحدث عن سيناريوهات انفجار الأوضاع في المنطقة، وموازين القوى التي سيفرزها مثل هذا الانفجار، أن نتوقف عند تصريح رئيس وزراء الكيان الصهيوني، بنيامين نتنياهو يوم الأحد الماضي الموافق 19 يناير 2020، حين تبجح قائلا "أن بلاده أصبحت دولة عظمى في مجال الطاقة خاصة بعد ضخ الغاز الطبيعي إلى مصر الأسبوع الماضي، واصفا إياه بأنه حدث اقتصادي ودبلوماسي كبير، وسابقة في تاريخ إسرائيل".
هذا يُعِنيه فما يعنيه، أنَّ الكيان الصهيوني لم يعد يكتفي القيام بدور القبضة الحديدية، بل بات يطمح لأن يكون أحد -أيضا- مكونات القوى الناعمة التي تستعين بها وواشنطن لفرض سيطرتها على المنطقة.