المفردة الدينية في شعر البهلاني

محمد علي العوض

 

ساهم القرآن الكريم بألفاظه ومعانيه القيّمة في تشكيل ذائقة رائد الشعر العماني الحديث أبي مسلم البهلاني، بل عُدّ مرجعًا أساسيًا للمفردة عنده، لذا كانت الآية القرآنية الكريمة حاضرةً في جميع موضوعاته الشعرية ومستويات الصورة الشعرية عنده بكل تجليّاتها من محسوس ومجرد. فبحسب ما أورد محمود بن مبارك السليمي في مؤلف "أثر الفكر الإباضي في الشعر العماني..." أنّ البهلاني كان ينظر للقرآن الكريم كمصدر وينبوع أساسي للدين والدنيا، ويتبدى ذلك خلال قوله:

سياسة الله في القرآن كافية

وما يزيد على القرآن نقصان

 

ويحفل شعر أبي مسلم البهلاني بالكثير من الأبيات المضمنة، التي تحيل إلى مدى خصب ثقافته الدينية، فالناظر في أساليب توظيف القرآن الكريم في شعر البهلاني من حيث المُفردات والتراكيب يلحظ أنّ البهلاني "استطاع أن يتمثل معانيه مُستغلا ما تُشِّعه المفردة القرآنية من معانٍ وما تمنحه من إحساسات، وما تتمتع به من إيحاءات".

وتتفاوت طريقة التوظيف تلك من موضع لآخر ومن قصيدة لأخرى؛ ففي بعض نصوص أبي مسلم البهلاني يتغلغل المعنى الديني داخل النص الشعري حتى يصبح جزءًا من نسيجه اللغوي المحكم وبنيته الشكلية، ويستدل السليمي على ذلك بالأبيات التي أشار فيها شاعرنا إلى أنّ ميزان التفاضل بين الناس عند الله يكون من خلال الأعمال لا من خلال الأنساب والأحساب:

والأمر يبنى على الأعمال كيف جرت ** والمدح والذم بحتاً غير معتبرِ

وأكرمُ الخلقِ أتقاهم فليس إذاً ** للمدح والذم بالأهواء من أثرِ

فالملاحظ هنا أنّ البيت الأول يتناص مع ما ورد من نصوص دينية ومعانٍ حول أنّ الله يحاسب عباده يوم القيامة بحسب أعمالهم وما جنته أياديهم من خير أو شر، بينما يتناص البيت الآخر مع قوله تعالى: "إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم"..

بينما يحيلنا البيت الذي يقول فيه البهلاني:

قرّت على رنقٍ وزخرف باطلٍ ** مثل القرارِ على شفيرٍ هارٍ

إلى الآية التي يقول فيها عزّ من قائل: (أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرفٍ هارٍ فانهار به في نار جهنم والله لا يهدي القوم الظالمين).. فالشاعر هنا كما شرحت خالصة الخروصية في مؤلفها "الصورة الشعرية في شعر أبي مسلم البهلاني" أنّ الشاعر وجه خطابه للإنسان الذي يغتر بالدنيا ولا يعتبر يما يجنيه من شرور وآثام ومصائب؛ ويقول إنّ الدنيا التي تستقر على زخارف باطلة هي زائفة، والشاعر هنا يشبه زخارف الدنيا الباطلة بالجرف الهاري أي الأرض الرخوة وحافة الأرضٍ المتزلزلة غير الثابتة وكل من يركن اليه أو يتخذه سكنا ومستقرا فهو مشرف على السقوط.

أيضا من الأمثلة الدالة على توظيف المفردة القرآنية في شعر أبي مسلم البهلاني قوله:

ما ذا الشقاق الذي يفري جُنوبكم ** والمؤمنون بذات الدين أخوانُ

فقد نقل الشاعر هنا صورة صادقة ومُجسدة لمعاني ومفردات الآية الكريمة "إنّما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم"، وذات الأبيات تتناص دلاليا مع آيات أخرى مثل قوله تعالى: "والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض" وكذلك مع النص النبوي: "مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسّهر والحمّى".. وأيضا تحيلنا إلى العبارة النبوية "وكونوا عباد اللَّه إخوانًا" في الحديث النبوي: "ولَا تجسّسوا ولا تحسسوا.. ولا تنافسوا...إلخ"..

وتتبدى براعة البهلاني كما وصفه السليمي في قدرته على أن "يستثمر بعض ما في كتاب الله من ألفاظ وعبارات ومعانٍ بشكل غير مباشر دون أن ينص على ذلك، كقوله:

أيقول ربك "لن تراني" فارتدع ** وتقول سوف أراك خلف البلكفه

أو ليسه هذا عناد ظاهر ** فاذهب أمامك موعد لن تخلفه

أ بآية الأنعام أدنى شُبهة ** أم آية الأعراف ويك مُحرفة

فأول ما يقرأ المتلقي تعبير "لن تراني" سيتقافز إلى ذهنه طلب سيدنا موسى من ربه النظر إلى وجهه الكريم: "ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال ربّ أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقرّ مكانه فسوف تراني فلمّا تجلّى ربّه للجبل جعله دكّا وخرّ موسى صعقا فلمّا أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أوّل المؤمنين") وتعبير "لن ترني ورد في سورة الأعراف والتي بدورها وردت لفظا في البيت الثالث، وكذلك تتناص الأبيات مع آية (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير) والواردة أيضًا في سورة الأنعام، وكأنّ الشاعر هنا يورد فكرته ورؤاه الشعرية في البيت ثمّ يأتي للاستدلال عليها بما ورد في القرآن الكريم.

وتذهب الخروصية إلى أنّ أبا مسلم البهلاني كان يستمد أحيانا بعض أفكاره الشعرية من الحديث الشريف لاسيّما في مجال الاستشهاد، وتستدرك أنّ ذلك قليل مقارنة بتوظيفه للمفردة والمعاني القرآنية.. وتورد في مؤلفها قول الشاعر مصورًا الجنائز في إحدى مراثيه:

تمر بنا جنائزنا بطانا ** حواصلها تزف إلى الوكون

وتغدو في مراعيها خماصا ** إلا عمدا من الخمص البطين

وتقول إنّ الأبيات تعكس الصورة الأصلية لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم: " لو أنّكم توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير؛ تغدوا خماصا وتروح بطانا".

وأيضا ينزاح قول البهلاني:

دبّ إليكم الداء من قبلكم ** من حسد يسفعكم ومن قلا

إلى النص النبوي الذي يقول: "دبّ إليكم داء الأمم؛ الحسد والبغضاء، هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين".. وكذلك الحديث الناهي عن الحسد والوارد في فقرة سابقة: "ولا تجسّسوا ولا تحسّسوا ولا تنافسوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدَابروا وكونوا عباد اللَّه إخوانا"..