سلاسة انتقال السُّلطة

 

د. إسماعيل الأغبري

تولي حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم -حفظه الله ورعاه- مقاليد الحكم في عماننا الحبيبة، مؤكدا السير على النهج القويم الذي أرسى قواعده وشيد بنيانه المتين جلالة السلطان قابوس بن سعيد بن تيمور -طيب الله ثراه- والتزام جلالته بوصية السلطان الراحل.

وفي ذلك الموقف التاريخي تجلٍّ عظيم لسلاسة انتقال ولاية أمر عمان، وهو أمر شهد به وأشاد به الجميع داخليا وخارجيا. فالإعلان عن وفاة جلالة السلطان قابوس فجر السبت، وتنصيب جلالة السلطان هيثم بن طارق بن تيمور -حفظه الله ورعاه- سلطانا على عمان بعد ساعات، وأَدَ القلق الذي ساور البعض بشأن فراغ السلطة وامتداد وقت الفراغ، إلا أن الأمر قد تم من خلال فتح الوصية في ساعات، فجنَّب الله عمان الفتن وتبين أن لا داعي من التخوف، وأن القلق ليس له محل من الإعراب.

إنَّ جلالة السلطان الراحل قد اختار بقلبه وعقله وبحكمته السياسية وحنكته، شخصية بارزة من الأسرة المالكة، وإذا أوصى بها فهذا يعني أنه تعمَّق في الاختيار الأسلم. ومن الدلائل على الثقة غير المتناهية في جلالة السلطان هيثم بن طارق -حفظه الله- ثناء جلالة السلطان الراحل عليه في وصيته. وصاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق بن تيمور أثنى على سلفه ثناء مستفيضا طويلا طويلا، وأطنب في بيان مناقب سلفه وتعمَّق في ذكر محاسنه، وتلك مزية حسنة أن يذكر الخلف مزايا السلف. واختيار صاحب الجلالة هيثم بن طارق سلطانا على عمان نابع من تفرُّس وصدق توقع من جلالة السلطان قابوس بن سعيد بن تيمور -رحمة الله عليه. وأسرة آل بوسعيد تلي أمر عمان منذ مائتين وخمس وسبعين عاما، أي منذ مؤسس الدولة البوسعيدية الإمام أحمد بن سعيد الجد الأكبر لجلالة السلطان هيثم بن طارق بن تيمور المعظم.

وعندما نبحثُ في المسيرة السياسية لحضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق؛ نجد أنَّه نال دراساته العليا من جامعة أكسفورد، وهذا يعني أنه لم يحز فقط مرتبة علمية بل ورُتب سياسية أيضا. وتقلد السلطان هيثم بن طارق مناصب عدة، فقد عمل بوزارة الخارجية، رأس الدبلوماسية العمانية، وتواصل مع زعامات وشخصيات وصناع قرار على مستوى العالم، واطلع على مجريات النهج الدبلوماسي لعمان، اطلاع ممارس وليس مجرد نظريات.

وجلالة السلطان هيثم بن طارق بن تيمور ليس غريبا عن الموروث الحضاري الثقافي العماني؛ فهو به بصير خبير، وليس فقط اطلاع وراثة أو باعتباره رأسا من رؤوس الدولة البوسعيدية، وإنما كان وزيرا لوزارة التراث والثقافة التي تمثل خزانة عمان الثقافية، ومرجعا لكل ما يمُت بصلة إلى عمان، فمن أراد عن تاريخها يتوجَّه لتلك الوزارة، ومن أراد معرفة علمائها يصوِّب بصره إليها، ومن أراد نبذة عن آثارها المادية وغير المادية يمم وجهه شطرها. تلك الوزارة طبعت أمهات كتب أهل عمان في التفسير والحديث واللغة والفقه والسير والتاريخ والأدب والأشعار والأمثال والفنون. نجحت وزارة التراث والثقافة عندما كان جلالة السلطان وزيرا لها، في أن تخرج إلى النور مجموعة من الكتب والموسوعات، مثل موسوعة الجامع لمحمد بن جعفر الطيار، وهو كتاب جامع صاحبه من علماء القرن الثالث الهجري، وسمي بقرآن الأثر؛ لأن علماء عمان تتبعوا مسائله ولازموا قراءته أو لأن ابن جعفر تتبع الأقوال فأحصاها في كتابه.

وطبعت الوزارة كتاب الجامع لابن بركة، وهو كتاب مبارك جليل القدر عظيم الفائدة وطبعت موسوعات الضياء لسلمة بن مسلم العوتبي، وبيان الشرع لمحمد بن إبراهيم الكندي، والمصنف لأحمد بن عبد الله الكندي، وقاموس الشريعة لجميل السعدي، وتمهيد قواعد الإيمان لسعيد بن خلفان الخليلي، وطبعت كتب نور الدين السالمي. كما طبعت الوزارة معجم العين للخليل بن أحمد الفراهيدي، وطبعت كتب السير ككشف الغمة الجامع لأخبار الأمة.

فالسلطان هيثم بن طارق خبر السياسة والدبلوماسية، كما خبر الثقافة والحضارة والهوية والخصوصية العمانية، واختيار جلالة السلطان قابوس بن سعيد بن تيمور لصاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم سلطانا على عمان، ثم توافق الأسرة المالكة على ذلك الترشيح، دليل ثقة الجميع به وإجماعهم عليه والتفافهم حوله.

وسُرعة التنصيب وأداء القسم منع منعًا باتا وجود فراغ في السلطة، وفي هذا درس كبير بوجوب تجنب العمانيين أي إشاعة مُغرِضة، وضرورة تنبه العمانيين إلى عدم قبول كلام أي مغرض؛ فالحمد لله سلاسة انتقال الحكم بادية للعيان مبثوثة وقائعها عيانا جهارا مباشرة لا شقاق ولا فتن ولا تنازع.

ولقد أفاض جلالة السلطان هيثم بن طارق حديثا عذبا شائقا رائقا عن سلفه جلالة السلطان الوالد الراحل جسدا جلالة السلطان قابوس، وقد أطنب جلالته أيما إطناب في الثناء على سلفه حتى كاد خطابه الأول التاريخي وكأنه خصَّصه للحديث عن مناقب سلفه، وهذه مزية وأخلاق عمانية تدل على أصالة ووفاء واحترام؛ مما يزيد السلطان هيثم بن طارق سموا وعلوَّ مكانة وخلقا رفيعا.

حفظ الله عمان، ويكلؤها برعايته، ووفق الله جلالة السلطان هيثم بن طارق لمزيد من البناء والتعمير بشقيه المادي والمعنوي.