توظيف خليجيين في مصفاة الدقم

د. عبدالله باحجاج

مُنذ أنْ بلَّغنا مصدر مُطَّلع -يرفض الكشف عن هُويته- بما يطرحه عنوان المقال من إشكاليات كبرى، قُمنا بمُتابعة بحثية في وسائل الإعلام الرسمية في هذه الدولة الخليجية، حتى اطلعنا على الخبر منشورًا على إحدى صُحفها الرسمية، ومنشورًا كذلك على موقع نفطي تابع لها، عندها توفَّرت لدينا كامل المشروعية في طرح هذه القضية التي تأتي عكس توجُّهات مرحلتنا الوطنية التي تَئِن بضغوطات الباحثين عن عمل والمسرَّحين.

في هذه القضية، تُطرح كل الأسئلة، وكل علامات الاستغراب؛ لأن فرص العمل أولى بها أبناء هذا البلد، وليس مشاركة آخرين فيها، مع كامل احترامنا لهم، وكامل تقديراتنا لروابط الأخوة معهم، وكامل ترحيبنا باستثماراتهم في بلادنا، ومنها نقول إنَّه لو كانت عملية التوظيف الخارجية ستتم لدواعِي الاستفادة من خبراتهم؛ فقد نسلِّم بها في مستويات معينة من التوظيف، لكن الاتفاق ينصب على توظيف حديثي التخرج من الجامعات، وهنا الصدمة الكبرى؟

فمن وافق، وكيف تمَّت الموافقة على هذا الاتفاق؟ بالرجوع الى المصدر الصحفي المنشور؛ فقد عنونت الصحيفة الخليجية الخبر بالعبارة التالية: "فتح باب نفطي جديد لتوظيف "أبناء الدولة" في مصفاة "الدقم"، وأوضحت أنَّ ذلك كان نتيجة اتفاق مع السلطنة بعد زيارة قام بها وزير نفطها مؤخرا بصحبة مسؤولين كبار، واعتبرتْ الاتفاق من شأنه فتح باب جديد لتوظيف وتشغيل شباب هذه الدولة حديثي التخرج، وأوضحت أنَّ هذا النهج سيطبِّقه قطاعها النفطي في المشاريع الخارجية في حال نجاح هذه التجربة في مصفاة الدقم، علما بأنها -أي هذه الدولة- تعد أحد شركاء بلادنا الاستثماريين البارزين؛ فهذا يعني أنَّ شرط التوظيف قد يمتد لبقية استثماراتها في بلادنا.

ووفق ما تقوله هذه الصحيفة، فإنَّ تعيينهم في مصفاة الدقم سيكون على أساس تابعيتهم للمصفاة مثلهم مثل العاملين العمانيين، ووفقاً للنظم والأسس هناك، على أن تكون إقامتهم الدائمة هناك وفقاً لنظم العمل، مُعتبرة أنها فرصة كبيرة للشباب هذه الدولة الخليجية.

ما موقف المركز الوطني للتشغيل من هذه القضية، خاصة وأن معالي وزير النفط والغاز أحد أعضاء مجلس إدارته؟ كما نُطالب مجلس الشورى بفتح ملف الدقم والاستثمار الأجنبي فيه؛ فبلادنا تضخُّ المليارات السنوية فيها لإقامة البنية الأساسية منذ عدة سنوات من أجل جذب الاستثمارات وتغريها بمجموعة امتيازات تشجيعية لكل مستثمر فيها من أجل عدة أهداف إستراتيجية؛ من أبرزها: توفير فرص عمل لتخفيف ضغوطات الباحثين عن عمل، فما مدى واقع منطقة الدقم الاقتصادية ومستقبلها المنتج لفرص العمل للعمانيين؟ من الأهمية الوطنية معرفة الإجابة عن هذا التساؤل المهم.

وهذه القضية تعزِّز ما تنبأنا به في مقال قديم نسبيًّا حول عولمة الوظائف وفرص التشغيل، وفي المقابل، هذا يكشف كذلك مكانة قضايا التشغيل والتوظيف عند كبار مسؤولينا؛ فلا يمكن أن نضع لها نسبة مئوية مُطمئنة، وإلا فكيف تمكنت دولة الاستثمارات الخليجية من فرض شرط توظيف مخرجات جامعاتها -أي حديثي التخرج- في مصفاة الدقم؟ وكيف لم يتمكَّن فريقنا العماني من الدفاع عن حصرية حق أبناء الوطن في العمل في مثل هذه الاستثمارات المهمة؟

وهذا حدثٌ نعتبره من كبرى انكشافات هذه المرحلة، ولا يُمكن السماح بنجاح هذه التجربة، ويجب الإسراع لإفشال هذا الاتفاق، خاصة وأنه وقع بصورة مبدئية -كما يقول مصدرنا- لأننا هنا نؤسس لظاهرة خطيرة وغير مسبوقة في بلادنا؛ حيث سيخلق سابقة ستستفيد منها الاستثمارات الأخرى... مما سيعمِّق أزمة البطالة، وسينتج تداعيات اجتماعية خطيرة.

والمثير في هذه القضية اختلاف تواقيت التوقيعات؛ فتوقيع اتفاقية مشروعي مصفاة الدقم ومصنع البتروكيماويات كان في العام 2018. أما توقيع اتفاق توظيف حديثي التخرج لهذه الدولة في مشروع المصفاة، فكان مؤخرا قبل نهاية 2019، أي عشية انطلاقة المركز الوطني للتشغيل، وهذا يعني أن التوظيف الخارجي لم يكن شرطا في أصل الاتفاقية وإنما كاتفاقية ملحقة.

ومن المعروف أنَّ مشروع مصفاة الدقم ستوفر ما بين "700-800" فرصة العمل غير مصنع البتروكيماويات الذي سيتم إقامته بعد الانتهاء من المصفاة لعلاقة المشروعين بعضهما البعض، ومن المعروف كذلك أنَّ هناك مُناصفة في الاستثمارات بين البلدين، وهذا لا يعطي الدولة الخليجية الحق أو أن تمارس أية ضغُوطات على مسؤولينا لكي تشارك بلادنا في فرص التوظيف والتشغيل في المشاريع المشتركة في بلادنا.

يكفِيها حجم الأرباح التي ستجنيها من هكذا مشاريع مضمونة، وفي بيئة آمنة ومستقرة وجاذبة، وفي موقع جيواستراتيجي يخدم الاقتصاد العالمي، يكفِي الحوافز الممنوحة للمشاريع في الدقم؛ حيث تتضمَّن الإعفاء من الضرائب لمدة تصل إلى 30 سنة من تاريخ بدء النشاط قابلة للتجديد لمدد مماثلة، يكفي بأن قانون استثمار رأس المال الأجنبي في بلادنا يسمح بأن يكون رأس المال الأجنبي في الشركات حتى 70% في معظم القطاعات، كما تصل نسبة استثمار رأس المال الأجنبي للمشاريع التي تمثل أهمية وطنية حتى 100%.. فكيف نسمح لهذه الاستثمارات أن تشترط علينا أن يكون لها حصة لتوظيف مواطنيها حديثي التخرج ومساواتهم بالمواطنين؟

وقد يُحاججنا البعض بحصة الاستثمارات الأجنبية في مشروع مصفاة الدقم، والتي تبلغ النصف، وهذه الحجة مرفوضة كذلك، ولو أصبح حصة رأسمال المال معيارا في استحقاقات الوظائف للوافدين والأجانب، فإنَّ هذه عولمة جديدة تؤسسها بلادنا دون وعي بخلفياتها الوطنية، وهنا علينا لفت الانتباه مجددا إلى أن شركاء بلادنا قد يُطالبون المعاملة بالمثل وفق مبدأ المشاركة في الوظائف التي تنتجها المشاريع الاقتصادية في بلادنا.

ونموذج اتفاق توظيف خليجيين حديثي التخرج في مصفاة الدقم، نموذج لكل ما يمكن أن يقال عن قضية الباحثين والمسرَّحين، وما قيل ما هو إلا القليل في قضية كبيرة ينبغي أن يتعاطى معها مجلس الشورى الغائب عن إدارة مركز التشغيل من جهة، والفريق المؤسس لهيكلية المركز الوطني للتشغيل، وهذه مفاجأة جديدة؛ فتمثيل المجتمع في الإدارة والفريق، ضمانتان أساسيتان للرقابة الفعالة؛ فكيف يتم تهميش مجلس الشورى..؟ وما هو دوره في إفشال هذا الاتفاق الذي يسحب فرص تشغيل وعمل المواطنين ويسلمها لمخرجات جامعية عابرة الحدود؟

نجدِّد مُطالبتنا بإلغاء هذا الاتفاق سريعا؛ لأنه يفتح بابا لن نتمكن من إغلاقه، ولأنه حتى لو ظل وحيدا، فإنه يتعارض مع توجهات الدولة القديمة الجديدة، كما أنه يفتح لنا ضرورة أعمال او تفعيل الرقابة على الاستثمارات الأجنبية في الدقم؛ فقد نجد هناك من المتناقضات والمتعارضات ما يستوجب تصحيحه وإعادة مساره؛ فلا يمكننا بعد هذا الانكشاف الجديد الرهان على الرقابة الحكومية على أعمالها؛ فلابد من الرقابة المستقلة والفعالة، واتفاق توظيف العنصر الخارجي في المصفاة، نقدمه من بين أكبر الأدلة التي تحتم مثل هذه الرقابة؛ فالاتفاق قد تم تمريره موافقة أو مباركة على مستويات وزارية عليا؛ فهذا يمثل قمة التناقضات للمرحلة الوطنية لمركز التشغيل، بل والتناقض السافر مع البواعث والدواعي السياسية من إقامة هذا المركز الوطني.. بل ويعكس لنا مكانة قضية الباحثين والمسرحين عند مسؤولينا الكبار.. فهل سنسمع قريبا إلغاء هذا الاتفاق؟