الوجودية بين "غثيان" سارتر و"شحّاذ" نجيب محفوظ (3-3)

...
...
...
...

 

أ.د. يوسف حطّيني| أكاديمي وأديب فلسطيني بجامعة الإمارات

 

أما المسؤولية عن الحرية تجاه الذات والآخرين فتبدو حلماً من أحلام المنظرين، وهي تبدو متفائلة، ولكن أكثر مما يجب، ذلك أن مواجهة الإنسان لذاته وحريته لا تجعلانه، بالضرورة، ذاتياً وإنسانياً في الوقت ذاته. يقول سارتر: "وعندما نقول إن الإنسان مسؤول عن نفسه، فنحن لا نعني أنه مسؤول عن شخصه فقط (...) إن الذاتية تعني حرية الفرد الواحد من جهة، وأنّ الإنسان لا يستطيع تجاوز ذاتيته الإنسانية من جهة أخرى(1)".

 

غير أننا عند التحقيق في النموذج الذهني الذي صنعه سارتر من خلال أوكتان، نرى شخصاً يراقب الآخرين، ويصفهم، ويحلل أفعالهم، وردود أفعالهم، دون أن يستطيع، أو دون أن يريد، إضافة شيء ذي تأثير إلى حيواتهم، بعيداً عن مشروعه الشخصية. ولا يختلف الأمر كثيراً عند عمر الحمزاوي الذي تقترب شخصيته من الشخصية الوجودية في كثير من الملامح، فحرية الحمزاوي لم تكن مسؤولة عن الآخرين، وذاتيته لم تقترب من الاندماج بذاتية الآخرين، بل على العكس من ذلك، تظهر أنانية مفرطة في عجزه، وفي اختياره العزلة للبحث عن أجوبة تاركاً أسرته في مهبّ المجهول. ويمكن لنا أن نلاحظ أن حدود تدخله في حياة الآخرين لم تتعدَّ أمنيات التغيير التي تحتاج إلى يد سحرية ومخيّلة نشيطة:

"ما أجمل أن يثور البحر حتى يطارد المتسكعين على الشاطئ، وأن يرتكب السائرون على الكورنيش حماقات لا يمكن تخيلها، وأن يطير الكازينو القريب فوق السحب، وأن تتحطم الصور المألوفة إلى الأبد، فيخفق القلب في الدماغ، وتتراقص الزواحف والعصافير(2)".

 

وقد اهتمت الوجودية بالجسد اهتماماً كبيراً، فالجسم عند سارتر هو الشكل الممكن الذي تتخذه ضرورة إمكاني، وهذا الإمكان لا نستطيع أبداً أن ندركه بما هو كذلك، من حيث أن جسمنا هو لنا: لأنه اختيار، والوجود هو لنا، اختيارنا لأنفسنا(3)". وقد عبّر عن ذلك بشكل أكثر تكثيفاً إذ كتب: "جسمي هو تركيب واع بشعوري(4)".

 

ومن الطريف أن معظم صانعي الشخصيات الوجودية في الأدب، بمن فيهم سارتر، جعلوا الشخصية الإشكالية منفتحة على جسد الآخر لا على جسدها؛ بغضّ النظر عن الموقف تجاه ذلك الآخر. نقرأ لروكتان الذي يكتب يومياته في "الغثيان" السياق التالي: "تناولت العشاء في مطعم رانديفو دي شامينو، ولما كانت صاحبته موجودة، فقد كان لا بد لي من مضاجعتها، ولكنّ ذلك كان بدافع التأدب.إنها تثير اشمئزازي قليلاً فهي مفرطة البياض، ثم إن رائحتها تشبه رائحة الطفل الوليد(5)"، كما نقرأ له سياقاً آخر يفلسف قضية الجسد الآخر، فيخاطب نفسه، إذ يودّع صاحبة المقهى: "كيف تأتى لي أن أضغط على شفتيّ على هذا الوجه العريض؟ إن جسمها لا يخصني. حتى الأمس كان بإكاني أن أحدس بهذا الثوب. أما اليوم، فإن الثوب غير قابل للاختراق. هذا الجسم الأبيض بعروقه النافرة. أتراه كان حلماً؟(6)".

 

ويلاحظ في السياقين السابقين أن العبث بجسد الآخر هو المعوّل عليه في حرية الجسد، أو لكأنّ الحرية تخص جسد الآخر لا جسد روكتان، ولا يشكّل الحب الذي  يكنه لآني رادعاً، لأنه لا يعدو كونه ذكرى تغزوه في وحدته:

  • "كانت آني تردّ إلى الزمن كل ما كان يستطيعه(7)".
  • "إنني وحيد في هذه  الحجرة القديمة المعتمة، وإنّ في محفظتي رسالة من آني، يمنعني خجل مزيف من أن أعيد قراءتها، وأحاول أن أتذكّر العبارات واحدة واحدة(8)".

 

وينطبق هذا إلى حد كبير على عمر الحمزاوي الذي  يتصرف بجسده، وبجسد الآخر (وردة، مارغريت، منى... إلخ)، دون أن ننتظر منه أن يسمح لزوجته أو ابنته بثينة أن تمتلكا الحرية ذاتها، فهو يتصرف بجسده من موقع سلطة ذكورية لا تخص المجتمع العربي وحده، ويربط بين الحياة وجسد الأنثى، لا بين الحياة والجسد عامة، فهو يقول مثلاُ: "كلما رأيتُ أنثى خيل إليّ أنني أرى الحياة على قدمين(9)"، وهو يشير إلى سعادته بجسد الأنثى، بمراقصة مارغريت، فـ "عندما أحاط خاصرتها بذراعه، وهام في وجدانه شذاها، حلا الليل ورقت الرطوبة، وازدهرت مجامع الأشجار المتلألئة(10)"، أمّا وردة فقد أثاره "عنقها الطويل المطوق بعقد لؤلؤي بسيط، وأعلى صدرها المنبسط في رحابة، ونضارة الجنس التي تنضح بها شفتاها الممتلئتان الملونتان(11)".

 

ويعبر الحمزاوي عن شغفه بالجسد، لا بالحب، عندما يعود إلى مارغريت ثم إلى غيرها وغيرها، وحين تسأله وردة عن علاقته بمارغريت: "تحبّها؟"، يقول لها:

"ـ كلا.

ـ لمَ ذهبت معها إذن؟

ـ لعلها رغبة طارئة(12)".

وحين ينتقل الحمزاوي من الزهد بالنساء، ويتجه نحو ما يشبه التصوف، عازماً على التخلص من رغباته الجسدية، تتصل به وردة لتسأله عن الحب:

"ـ ألا تزورنا ولو في السنة مرة؟

ـ كلا ولكن تحت أمرك إذا كنت في حاجة إلا شيء.

ـ أنا أحدثك بلغة القلب.

ـ القلب!! إنه مضغة(13)".

هكذا إذاً، ينسحب الحمزاوي، لا من الحب فحسب، بل من الحياة نفسها، لينتقل من عزلة يقتسم فضاءها مع الآخرين، إلى عزلة انفرادية تضيق عليه رغم اتساعها.

 

سابعاً ـ بين العزلة المادية والعزلة الروحية:

وتظهر العزلة، إلى جانب بدائل أخرى، طريقة مثلى للتعايش مع الناس، من موقع المراقب لا المشارك، فروكتان، خلافاً لتنظيرات سارتر، يشعر بالوحدة التي يطلبها أحياناً، للكتابة عن تأملاته: "وكان لدي ركام كبير من هذه التأملات حول الماضي والحاضر والعالم، ولم أكن طلب إلا شيئاً واحداً: أن يتركوني أنهي كتابي بهدوء(14)"، وتجعله [أي العزلة] عرضة للإشفاق عليه حيناً آخر؛ إذ يراقب الذين يحتسون القهوة ويلعبون ويصرخون من أجل أن "يوجدوا"، أما هو فكأنما يعيش خارج هذا الوجود: "يتجهون إلى هذا المقهى بعد الطعام، فيحتسون القهوة، ويلعبون البوكر، وهم يحدثون بعض الضجّة، ضجة واهنة لا تزعجني، إنّ عليهم هم أيضاً؛ لكي يوجدوا، أن يتعددوا. أما أنا فأعيش وحيداً، وحيداً كل الوحدة، إنني لا أتحدث مع أحدٍ أبداً، ولا أتلقى شيئاً، ولا أعطي شيئاً(15)". وإذ يراقب بعض الأشخاص يوم الأحد يقول: "إنهم سيعودون عما قليل إلى بيوتهم، فيشربون فنجان شاي مع أفراد العائلة(16)"، وعلى مدى رواية "الغثيان" يملي علينا وحدته، فنقرأ له عبارت مثل "كنتُ وحيداً(17)، وسياقات توحي بشوق غير معلن، لكسر هذه الوحدة: "أنا وحيد، وقد عاد معظم الناس إلى بيوتهم، إنهم يقرؤون صحيفة المساء، وهم يستمعون إلى الراديو، وقد خلّف الأحد الذي انتهى مذاق رماد عندهم، وبدأ فكرهم يلتفت إلى يوم الإثنين. ولكن ليس لي أنا أحد ولا إثتين(18)".

 

ويبدو بطل نجيب محفوظ أكثر إصراراً على العزلة، وأكثر جرأة في التعبير عنها، وقد جرّب نوعيها: العزلة الروحية، والعزلة الجسدية، فعاش في الأولى خيار الجسد خارج مؤسسة الزواج، وانفصل في الثانية انفصالاً نهائياً عن كل ما حوله، فها هو ذا داخل فضائه الخاص يتأمل الكون: "استلقيت على ظهري فوق الحشائش، رانياً إلى الأشجار الراقصة بملاطفات النسيم في الظلام(19)"، وهو يرفض العودة عن عزلته، مهما حاول الآخرون إادته إلى دنياهم، فحين يجده عثمان، ويخبره أنه تزوج ابنته بثينة، وهي حامل، يعبّر عن زهده بكل من حوله:

" ـ بثينة تنتظر مولوداً، ولن تراني أبداً.

ـ وأنا لن أراه.

ـ ألا تريد أن تفهم؟

ـ أموت كل يوم عشرات المرات كي أفهم، ولكنني لا أفهم(20)".

 

إنّ العزلة التي يعانيها البطلان، بعد أن يختاراها بنفسيهما، هي ناتج قلق، وقد ربط سارتر بين القلق والعزلة حين قال: "السقوط فرار من القلق؛ لأن القلق يتهدد وجودنا بأسره، ويعزلنا أمام أنفسنا، بحيث نشعر بهذه العزلة شعوراً حاداً(21)"، كما ميّز طبيعة القلق الذي يحس به الوجوديون، قائلاً: "ومن الواضح أن القلق الذي نعنيه هنا ليس هو  القلق الذي يؤدي إلى الاستكانة واللافعل، لكنه القلق الصافي والبسيط من النوع الذي يعرفه كل من تحمّل مسؤولية من المسؤوليات في يوم من الأيام(22)"، جان بول سارتر: الوجودية مذهب إنساني، ترجمة عبد المنعم الحفني، الدار المصرية، القاهرة، ط1، 1964، ص22. وإذا كنا نلمس تجليات القلق الوجودي في الغثيان؛ إذ يقود روكتان إلى رحلى جديدة، فإنّ هذا القلق لم يزد عمر الحمزاوي إلا حيرة وضياعاً.

 

وأخيراً بقي أن نقول إن العمل الإبداعي غير مرتهن لمذهب أو أدبي أو فني، وأن الشخصيات التى نرى فيها ملامح وجودية، قد يبحث فيها غيرنا عن ملامح  عبثية، وإن كنا نعتقد أن رواية "الغثيان" لسارتر قد كتبت خصيصاً؛ لتقول بعضاً مما نظّر له، بخلاف رواية "الشحاذ" لنجيب محفوظ التي كُتبت لترضي نفساً إبداعية لا ذهنية، ولترسم جزءاً من رؤية أوسع أفقاً، فهي مجرد جزء من سياق، يرصد تطوّر نظرة محفوظ للعالم الرحب الذي يحيط به.

...........

هوامش:

  1. جان بول سارتر: الوجودية مذهب إنساني، مرجع سابق، ص16.
  2. جيب محفوظ: الشحّاذ، مصدر سابق، ص44.
  3. جان بول سارتر: الوجود والعدم (بحث في الأنطولوجيا الظاهراتية)، مرجع سابق، ص537.
  4. المرجع نفسه، 539.
  5. جان بول سارتر: الغثيان، مصدر سابق، ص84.
  6. المصدر نفسه، ص239.
  7. نفسه، ص82.
  8. نفسه، 88.
  9. نجيب محفوظ: الشحّاذ، مصدر سابق، ص70.
  10. المصدر نفسه، ص62.
  11. نفسه، ص71.
  12. نفسه، ص112.
  13. نفسه، ص152.
  14. جان بول سارتر: الغثيان، مصدر سابق، ص134.
  15. نفسه، ص12.
  16. نفسه، ص75.
  17. نفسه، ص81.
  18. نفسه، ص78.
  19. نجيب محفوظ: الشحّاذ، مصدر سابق، ص165.
  20. المصدر نفسه، ص168.
  21. جان بول سارتر: الوجودية مذهب إنساني، ص35،
  22. المرجع نفسه، ص22.

تعليق عبر الفيس بوك