في ذكرى حماسة الرابعة.. مات بطلا وأعطي بسخاء!

 

صبرى الموجى| صحفي بجريدة الأهرام المصرية

 

تحل نهايةَ هذا الشهر، الذي هو في حقيقته نهاية عام ميلادي مضي بأتراحه وأفراحه الذكري الرابعة لرحيل الشاعر والنحوي والأديب د.  محمد حماسة عبد اللطيف أحد أبرز علماء العربية في العصر الحديث، صاحب الدور المُبرِز فى تقعيد الدرس النحوى، وتأليف كُتب فى العربية والنحو، تُضاهى كُتب شيوخها الأوائل أمثال (الخليل بن أحمد، وسيبويه، وابن جني) وغيرهم، والتي استفاد منها، ومازال يستفيد الدارسون فى مشارق الأرض ومغاربها؛ وذلك لما امتازت به من عُمق المعنى، وعذوبة اللفظ، وصدق التعبير، وجدة المحتوي وكلُها مقوماتٌ متى توافرت فى كتاب أجبرت مُتصفِحه على قراءته من (الجلدة للجلدة)، فيخرج مُحمّلا بدقائق اللغة وفوائدها التي تترصع بها كُتب فقيدنا رحمه الله، وطيب ثراه، والتي منها : الضرورة الشعرية في النحو العربي، والنحو والدلالة مدخل لدراسة المعنى النحوي الدلالي، والعلامة الإعرابية في الجملة بين القديم والحديث، وغيرها.

وإذا كان فقيدُنا امتدادَ سلسلة طويلة لعلماء ثقات، أثروا المكتبة العربية تأليفا وتصنيفا، إلا أنه امتاز عن جميع من سبقه، ولا أبالغُ إذا قلتُ وعن اللاحقين أيضا، بخفة الظل وروح المرح الممزوجة بالمهابة،  تلك الروح التي تُزيل الحواجز الخُرسانية بين التلميذ والأستاذ ، فتساعد في تسلل المعلومةُ - حتي وإن كانت صعبة - إلى عقل ولُب التلميذ فى سهولة ويسر، فيخرج طلابُه من محاضراته الدسمة، دون حاجة إلى مُذاكرة الدرس، بعدما حفظوه علي يد شيخنا حماسة طيب الله ثراه.

وطرائفُ د. حماسة مع طلابه أكثرُ من أن تُعد منها : أنه فى إحدى محاضراته بدار العلوم، وفى يوم اشتدت فيه حرارة الجو، وفاحت من الطلاب رائحةُ العرق، قال لطلابه مُداعبا : مالي أراني كلما مررتُ بالكليات المجاورة تُزكمني رائحةُ (البرفان، وأفخر العطور)، أما في دار العلوم فتُزكمني رائحةُ العرق، فيرُد طالبٌ ورث خفة الظل عن أستاذه: لأن كُليتنا عريقة، فتضج قاعة المحاضرة بالضحك، وينبرى أستاذُنا بعد ذلك كالبحر الهادر يغمُرنا بفيض علمه وأدبه، ويجود علينا بدررٍ ونفائس تذهل لها العقول.

 ومن مناقب أستاذنا أيضا، والتى كان فيها نسيج وحده، حنُوه على طلابه، وإكباره لهم؛ تشجيعا على البحث والدرس، فما من طالبٍ أشرف عليه أستاذُنا فى أطروحته للماجستير أو الدكتوراه، إلا ونعم بهذا الحنو، وظفر بكثير من كرمه وعطاياه، التي تجعله يصدُق عليه  قول زهير:

 تراه إذا ما جئته مُتهللا.... كأنك تعطيه الذى أنت سائلُه!

ومن براهين إكباره لطلابه، حدث أن جاءه أحدُ الباحثين الصغار، وهو يُقدِّم رجلا ويؤخر أخرى، بكتابٍ ألَّفه فى إعراب القرآن، ووقف التلميذُ أمام الأستاذ مُنكسِر الطرف، ينتظر النقد؛ ظنا أن عمله لن ينال رضا أستاذه، فإذا بالأستاذ يكيلُ له المديح، بعدما ألفى فى كتابه كبير جُهد، فكانت هذه الكلمات دافعا لذلك الباحث الصغير لأن يُصنف بعدها العديد من الكتب الجادة.

 ومن مناقب حماسة أيضا السخاء بلا حدود، إذا إن راتبه من الكلية لم يدخل يوما جيبه، بل كان من يد الصرَّاف إلي جيب العاملات بالكلية اللائي بكينه بحرقة عندما سمعن خبر وفاته وبسؤالهن عن سبب ذلك أجبن : كانت بيوتُنا مفتوحة من خيره .

ومن ملامحه المميزة أيضا والتي تفرد بها عن الأقران الصبرُ والاحتساب، رضا بقضاء الله، والذي تجلى فى صبره على محنة اتهامه بالجمع بين وظيفتي العمل كأستاذ بالجامعة، وكنائب لرئيس مجمع اللغة العربية بالقاهرة، رغم أن الوظيفة الثانية شرفية، وسبقه كثيرون في الجمع بينهما من هؤلاء عميدُ الأدب العربي طه حسين وغيره، إلا أنه حرامٌ علي بلابله الدوحُ حلالٌ للطير من كل جنس، فأبى حماسةُ بشخصيته العنيدة في الحق إلا المضى قُدما فى طريقه دون الالتفات لكيد الكائدين، وتعويق المُعطلين.

وإذا كانت محامدُ د. حماسة أكثرَ من أن تُعدَ، فإنّ من أجلِّها عطاءه لطلابه بغير حدود، دون أن ينتظر جزاء ولا شُكورا، ولكنْ فى دنيا كثُر فيها اللئام، حدث أن تنكر أحدُ الطلاب لكريم صنع أستاذه حماسة، وقابل معروفه بطعنة غائرة أدمت قلب أستاذنا، فطفق يُردد حتى ليلة وفاته :

 لم أفعل العُرفَ لا خوفا ولا طمعا لكنه الله والأخلاقُ والـــــــــدار.

ما كُنتُ أبغى سوى حسن الوداد به وقد جُزيت كما يُجزى سِنمــار.

يكفى جزائى أنى سعدتُ بما أتيت من عمل واللهُ أختـــــــــــــــــار.

فرحم الله شيخ العربية المُعاصر العلَّامة  د. محمد حماسة عبد اللطيف نائب رئيس مجمع اللغة العربية، الذى رغم كثرة الضربات المُوجهة إليه أبى إلا أن يموتَ واقفا كالأشجار في الحادي والثلاثين من ديسمبر عام ٢٠١٥م.

تعليق عبر الفيس بوك