د. سيف بن ناصر المعمري
المتأمل في ما يجري في بعض دول المنطقة من انتكاسات في مختلف نواحي الحياة؛ يتبادر إلى ذهنه العديد من الأسئلة أهمّها هل كانت التنمية الحقيقية الموجهة للإنسان مجرد لحظة؟ وانتهت لتحل عملية لا تقود إلى تنمية تعمل على "تخدير" الناس لكي يكونوا غير قادرين على القيام بدورهم الحقيقي في استعادة التنمية الحقيقية التي تعمل على تخليصهم من الضغوطات المتزايدة التي تبدد من أحلامهم في العيش والأمل، شأنهم شأن غيرهم من المجتمعات الإنسانية، التي تحقق قفزات تنموية بفضل الاستناد إلى الإنسان المبدع والكفء القادر على قيادة إدارة الموارد والخطط والحلول لبناء مجتمع ودولة قوية قادرة على مواجهة التقلبات العالمية.
وهنا يبرز الفرق بين هيمنة "الإدارة والكفاءة" في دول، وبين "هيمنة الرداءة والسطحية" في دول أخرى في قيادة التنمية، وهذا ما عمل الفيلسوف آلان دونو أستاذ الفكر النقدي للعلوم السياسية في جامعة مونتريال الكندية على التحذير منه في مقابلة أجريت معه في عام 2015 وترجمها للعربية "سعيد بوخليط"، ونحاول هنا أن نتعرف على معالم هذه "الرداءة التي تهمين على مراكز اتخاذ القرار وتقود إلى "تصحر تنموي" ينذر بخطر كبير في العديد من مجتمعات المنطقة ما لم يعد البعض إلى التفكير في الصالح العام، وفي مركب "الوطن الواحد" الذي يحمل الناس جميعا.
يرى الفيلسوف آلان دونو أنّ الرداءة المهيمنة تنتج من عدة جوانب؛ هي أولا: سيطرة أصحاب الكفاءة والعقول الضعيفة على مراكز اتخاذ القرار، وعمل بعض الدول على انتقائهم بطريقة تبعث على علامات الاستفهام، وقاد هذا الاصطفاء اللامبرر هؤلاء إلى إغراق بلدانهم ومؤسساتهم في كثير من الإشكاليات، والخسائر، التي جردت بلدانهم من مقومات القوة،
ورهنتها لتبعية الديون، التي يتم سدادها بالتضحية بمتطلبات المواطنين، ويؤكد هذا الفيلسوف كيف يمكن أن يروج البعض إلى تحقق مستقبل أفضل، والكفاءة الضعيفة تسيطر على مختلف مراكز صناعة المستقبل، ويجيب أنه شكل من أشكال "التخدير" الذي يقوم به هؤلاء، لإبقاء الناس لأطول فترة ممكنة بعيدا عن الانتباه لحالة الغرق المستمرة التي يعمل هؤلاء على قيادتهم نحوها، ولمنعهم من المساءلة المبكرة لما يجري.
وثانياً: يرى آلان دونو أنّه بدلا من إطلاق ثورة "تنمية حقيقية" تنتشل ما تبقى من آمال في مستقبل أفضل، يطلق هؤلاء من مراكز القرار "ثورة للتخدير" وينفق عليها بسخاء، للحفاظ على الوضع القائم، وإضفاء الشرعية على حالة "الترهّل"، ومنع أي شكل من أشكال إبداع الناس قد يقود إلى تقويض هذه "الرداءة" التي تبقي كل شيء ساكنا، وتحذّر من أي حجر يمكن أن يحرك مياه البحيرة الراكدة، حتى لا يوقظ التمساح النائم تحتها، ويخرج ليقوّض أمل الناس في المستوى المتدني من الحياة، وتعمل آلة التخدير على زرع قناعات في النّاس بأنّ الواقع لا يمكن لأي أحد كان تغييره، لأنه معقد جدا، وهناك تأثيرات وعواقب لأي تغيير، ولذا فالأفضل الحفاظ على الواقع أيًّا كانت مساوئه وإشكالياته، وأيًّا كانت المعاناة التي يعيشها الناس فيه، وأيًّا كانت الفرص التي تضيع لتحقيق الأفضل.
ثالثاً: تقود حالة "الرداءة" على تقليص الطموحات الكبرى التي يمكن أن ينجزها الناس في بلد ما نتيجة تميّزهم الفكري، وإبداعهم، وحبهم للمغامرة، وجرأتهم وشجاعتهم، وذلك من خلال تكريس ما دون المتوسط معيارا للإنجاز، وبالتالي يقود تحقيق ذلك إلى عمل احتفالات كبرى والتباهي بما يعد في دول ومجتمعات أخرى فشلا، فالخسارة في مشروع أو شركة لا يعد خسارة من منطق هؤلاء لأنّه خسارة وفق خطة مدروسة تقود بعد عشرات السنين إلى ربح، وفشل مشروع في تحقيق أهدافه يصبح تجربة تمت الاستفادة منها، وهكذا تتراجع معايير الإنجاز وتصبح "الحبة" "قبة" على حد تعبير الثقافة الشعبية العربية.
رابعاً: هيمنة الرداءة تجعل من الصعب وجود تأمل بعيد المدى، للقرارات التي تتخذ، أو السياسات التي تعتمد، وما يجري هو البحث عن المخارج السريعة لأي مشكلات قد تنشأ من عملية التنمية، وطبقا لذلك يقود حل مشكلة إلى الوقوع في مشكلة أخرى، ومع ذلك في ظل فكر "الرداءة" يستمر تطبيق المخارج السريعة، ويستمر الوقوع في المشكلات، وتصبح التنمية مجرد كر وفر من المشكلات دون إنجاز حقيقي ملموس.
خامساً: تكريس الفساد كواقع، في ظل نظام تسيطر عليه كفاءات ضعيفة يتم قبول لعبة المصلحة والأخذ والعطاء، وخدمة المصالح قصيرة المدى، ويتم التغاضي عن التجاوزات في التقارير المختلفة التي يقوم بها هؤلاء، وتتم الإشادة بالنجاحات، وبالتالي يصبح الغش نهجا تنمويا وإداريا يقود على حد تعبير دونو إلى إنتاج "مؤسسات فاسدة"، ويبلغ الفساد مداه حين "لا يدرك الفاعلون أنّهم حقا فاسدون"، ويعطي مثالا على ذلك هو قيام مؤسسات التعليم على أعاقة تشكيل عقول ناقدة لدى الطلبة حتى لا يقوموا بمجابهة حالة الرداءة، فهذا رئيس جامعة مونتريال يؤكد في خريف سنة 2011 "ينبغي تكييف الأدمغة حسب حاجيات المقاولات" مقاولات تنتمي إلى مجلس إدارة الجامعة رغم أنّ الدولة تمولها بسخاء، لكنها المصلحة التي تجعل حتى المؤسسات العلمية جزءا من حالة تكريس هيمنة الرداءة.
سادساً: خبراء لتبرير الرداءة، تلجأ المؤسسات حين تسيطر عليها "الرداءة" إلى الاستعانة بخبراء، ليقدموا لها المبررات الجاهزة لتبرير الخطط الفاشلة والرديئة والرفع من قدرها، ولتفسير الإخفاق وتحويله إلى نجاح، ولتخدير الناس بأنّ الخطط التي سوف تنفذ أو البرامج هي مدعومة بخبرات عالمية، وبالتالي لابد من الثقة فيها، خاصة أنه لا شيء يتم بشكل عشوائي، ومتخذ القرار لا يمضي في أي شيء إلا بخبرات علمية عالمية، ولكن كل ذلك هو من أجل إضفاء شرعية للقرارات التي تتخذ.
هذه بعض مظاهر هيمنة الرداءة التي تكلم عنها الفيلسوف "آلان دونو"، وهو يتكلم منطلقا من واقع غربي لا يزال خاضعا لكثير من أوجه الرقابة والمساءلة، وحراك سياسي ومدني، وإعلام مستقل يفتح التحقيقات اليومية عن كل صغائر الحياة وكبائرها، وتلك المظاهر تزاد عمقا في الدول التي تفتقد لتلك الجوانب، وما يهم آلان دونو في كل ذلك هو كيفية مقاومة "هيمنة الرداءة"، فهو يؤكد على أهميّة التصدي لمحاولات "تخديرنا"، من خلال العديد من الأساليب أبرزها استعادة "وازع القراءة والرهان على تكريس المفاهيم التي يتم التخلص منها كما لو أنّها غير مهمة، وأن نضخ من جديد حياة في شرايين المعنى، وننتشله من هامشيته"، عندها يمكن أن نجعل من "الرداءة" مجرد لحظة لا تاريخًا، ونجعل من الكفاءة والإنجاز والتنمية نهجا مستدامًا لا مجرد لحظة.