مائدة فكرية ومأدبة علمية معمقة
د. إسماعيل الأغبري
يوم الأحد الأول من ديسمبر 2019.. موعدٌ طال انتظاره، وترقبت قلوب وعقول حلوله، إنَّه يوم انعقاد "ندوة تطور العلوم الفقهية في عمان"، ذات السلسلة السنوية من الندوات الدقيقة في مواضيعها، الجديدة في أطروحاتها، الأصيلة في كيفية علاج ما تطرحه من عميق المواضيع المعاصرة في أساليبها البعيدة عن الطرح الجاف التقليدي، القريبة في مواضيعها من العصر، الملامسة لما يحتاجه المجتمع العماني خاصة والعالم الإسلامي عامة، والمؤتلف الإنساني بصفة أدق وأعم.
وندوةُ تطور العلوم الفقهية.. جامعة للرؤى، مُقرِّبة بين حصاد العقول، مُؤلِّفة وداعية للمؤتلف الإنساني بصفة عامة.
الندوة شجرة، أصلها ثابت وفرعها في السماء، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، وهي كنخلةٍ باسقةٍ مثمرةٍ، ذلك ما يتجلَّى من مواضيعها الكثيرة السنوية، وهو ما يتكشَّف من نوعية البحوث ومكانة الضيوف المشاركين بفرائد بحوثهم ونفائس ما خطته أناملهم.
ندوة تطور العلوم الفقهية.. مؤتمرٌ عمانيٌّ خالص من حيث التنظيم والإعداد والإدارة، ودقة اختيار عناوين البحوث والدراسات.
ندوة تطور العلوم الفقهية.. عمانيةٌ خالصةٌ من حيث المبارَكة العالية والدعم لها؛ لأنه أريد منها جمع ما تفرَّق، وتأليف ما تشتَّت، وتقريب ما تباعَد؛ فذلك منهج سياسي وثقافي عماني، وقد نجحت الندوة في تحقيق هذا الهدف السامي العالي في سائر الندوات السنوية، وهذا هدفٌ سامٍ كبير لا يصدُر إلا عن كبير؛ فهو مؤتلف من المؤتلفات.
ندوة تطور العلوم الفقهية.. وإنْ كانت عُمانية خالصة الإعداد الإداري والتنظيم والدعم، إلا أنها بساطٌ أخضر جامع لمختلف الرؤى، ومن مختلف الأطياف الثقافية، ومن مختلف البلدان، وبهذا تنتظمُ خلالها حُبيبات العقد في صورةٍ تُبهج عشاق الاجتماع، وتسرُّ دعاة الوئام.. إنها مؤتلف واجتماع.
ندوة تطور العلوم الفقهية.. بمثابة جامعةٍ عريقةٍ منفتحةٍ ومنضبطةٍ أيضًا، كلٌّ يقدم في هذه المائدة خلاصة ما انتهى إليه بما ينسجم والمواضيع المقررة وعصارة ما انتهى إليه من حرية المقال والنتيحة.
ندوة تطوة العلوم الفقهية.. بمثابة إشعاعٍ حضاريٍّ منبثقٍ من عمان، وبمثابة شمس دافئة تبدأ من عُمان تنشر خُيوطا ذهبية شيئا فشيئا في أرجاء العالم الإسلامي حتى تبلغ العالم الإنساني كمؤتلف إنساني.
ندوة تطور العلوم.. هُنا العماني داعية الاجتماع والساعي بطبعه للوفاق ونبذ كل ما يُعكِّر صفو حياة الناس وصفو ذات الحياة.
في ندوة تطور العلوم الفقهية.. الشامي والعراقي والإيراني والشمال إفريقي واليمني والشرق إفريقي والجزيرة العربية...وغير ذلك كثير كثير.
في ندوة تطور العلوم الفقهية.. لك بسط القول والصدع بما توصَّلت إليه في بحثك دون مُصَادَرة له أو إكراه لك لتغيير نتيجة ما توصلت إليه.
ندوة تطور العلوم الفقهية.. لا تبقَى بحوثها حبيسةَ الأدراج، ولا تضيعُ بحوثٌ بعد نهاية انعقاد الندوة، ولا تبقى في بطون الحواسيب، بل ترى النور بطِبَاعتِها، وعندما يأتي الضيوف السنة المقبلة يجدون نسخا من بحوثهم وقد صارت بين أيدي عشاق المعارف.
ندوة العلوم الفقهية اليوم.. ندوة مُختارة، عنوانها دقيق ملامِس للواقع، منسجم مع المجتمع العماني.. إنه فقه الماء بالمفهوم الواسع الشامل.
فقه الماء.. والماء حضارة.. وجوده وجود الحضارة، ونشأة المدن وقيام المدنية.
العمانيون عرفوا نظامَ الري، وأبدعوا بحثا عنه، فشقوا مسالك، وتتبعوا وسائل الحصول عليه.. أفلاج كثيرة صارت ضمن التراث العالمي، شقها ورعاها أئمة عمان وسلاطينها، وحافظ عليها الفقهاء من خلال فتاواهم المانعة من الاعتداء عليها، وشعب من خلال أوقاف أوقفها لها.
قاموس الشريعة الحاوي طُرقها الوسيعة للعلامة جميل بن خميس السعدي، أطنب في الحديث عن موارد المياه من أفلاج وعيون وآبار وطوي النصف، وتحدث عن المسيلة والشرجة وأحكام الساقية وحكم المعتدي عليها إتلافا متعمدا، ولم يغفل العلامة محمد بن إبراهيم الكندي في بيان الشرع الحديث عن الشرجة والمسيلة، وعدم جواز تغيير المجرى ولا وضع أحواض حاجزة.
العلامة أحمد بن عبد الله الكندي في كتابه المصنف بيَّن ضرورة صيانة الموارد المائية ومعاقبة المعتدي عليها، بل وتحدث الفقهاء عن البحر وإحراماته وعما يُوجد في بطنه.
نور الدين السالمي تحدَّث في جوهر النظام في علمي الأديان والأحكام عن عدم جواز الزرع في بطون الأودية والشراج والمسائل؛ لما في ذلك من إعاقة للجريان، ومخافة الغرق عند اشتداد الأنواء المناخية.
نور الدين السالمي ذكر حكم ما نبت بذاته في الأودية من سدر وشوع...وغيرها، ورجح أنها للجميع، وليست للفقير فقط.
إنْ كان فقهاء الأمس تحدَّثوا عن جميع ذلك، فإنَّ التشريعات والقوانين الصادرة عن وزارة البلديات الإقليمية وموارد المياه ووزارة البيئة...وغيرها تمنعُ تحويل المجرى أو سده بكبس، وتشدِّد على من يلقي فيها مخلفات الهدم، وتعاقب من يحدِث فيها حدثا؛ لما يسببه من ضرر بالغ.
... إنَّ هذه الندوة مردودها يخدم السلطنة بأسرها، وليس فقط المؤسسة المنظمة لها، إنها تتناول بحث شريان حياة الناس، بل الحياة بأسرها.