"الاحتفالات".. الوجه الجديد للإسراف الاجتماعي

 

مسعود الحمداني

 

في الوقت الذي تحارب فيه الدولة الإسراف على كافة المستويات، وتحذّر منه ومن عواقبه الوخيمة على مستوى الأفراد والمجتمع، نجد أن ثمة ظواهر جديدة تطفو على السطح، وتكاد تعصف بكل المعايير التي وُضعت للحد من هذه الظاهرة المقلقة، وكأنه كلما بدأ الناس يتعافون من ظاهرة (إسرافية)، ظهرت أخرى أشد منها فتكا، وأبلغ أثرا (سلبيا بالطبع).. ولعل أحدث هذه الظواهر التي يطغى عليها الإسراف هي ظاهرة (الاحتفالات والفعاليات) التي تقام في كل مناسبة وبدون مناسبة أحيانا.

فلا يكاد ينتهي حفل في قرية إلا ويظهر حفل آخر في قرية أخرى، وكأنّ هناك مباراة حقيقية بين بعض الشخصيات والقبائل أو الأسر للمباهاة والظهور، البعض يعلّقها على الاحتفاء بالمناسبات الوطنية، وآخرون يبتغون منها وجاهة معينة، وفريق ثالث يسعى لإظهار قوته ونفوذه في المجتمع، ويحاول فريق رابع أن يحدّث عن نعمته وماله وجاهه، وفريق خامس يبتغي الظهور ولفت الانتباه، وأكثر هذه الاحتفالات هي لمجرد الاستعراض الاجتماعي، ولجذب الأنظار إلى أشخاص بعينهم ليس إلا.

كادت الدولة أن تقضي على ظاهرة الإسراف في الأعراس، والإسراف في العزاء، وحتى الإسراف في النفقات العامة، غير أنّ البعض يخترع مناسبته الخاصة لكي يقول "ها أنا ذا"، وليت هذه الجهود التي تُبذل في هذه المناسبات توجّه للفقراء والمحتاجين في هذا المجتمع، وليتها تصرف في وجوه النفع العام، لكان ذلك أجدى نفعا، وأعم فائدة، وأكثر استمرارية، ولاستفاد منها الوطن برمته، غير أن المشكلة أن هذه الأموال توجّه لعمل فعاليات وقتية، ترهق الناس ماديا، وتكلفهم معنويا، ولا تقدّم شيئا للمجتمع.

من حق كل شخص أن يفرح، ومن حق كل ولاية أو قرية أن تقيم مناسبتها الخاصة، ولكن في حدود المعقول، ودون مبالغة أو إسراف، فكم من أموال وجهود تُصرف على هذه الاحتفالات، وكم من مبالغ وتبرعات عينية ومادية يتكبّدها القطاع الخاص والشخصيات العامة، التي تسعى لإثبات وجودها، أو من باب مجاملة أصحاب الدعوة، وتذهب تلك الجهود سدى بعد انتهاء فقرات الحفل، بينما على الجانب الآخر توجد أسر فقيرة لا تكاد تجد قوت يومها، وطلاب معسرون لا يجدون مائتي بيسة لشراء وجبة بسيطة في المدرسة، وبيوت مهترئة تكاد تسقط على رؤوس أصحابها لا تجد من يمد لها يد العون والمساعدة، في الوقت الذي تذهب فيه الآف الريالات في مظاهر لا تجدي المجتمع نفعا.

ليس هناك قانون يمنع مظاهر الاحتفالات بالمناسبات العامة والخاصة، ولكن هناك قانون إلهي وإنساني يقف في مواجهة الإسراف والتبذير، فكثير من الآيات القرآنية تحث على ذلك (.. وكلوا واشربوا ولا تسرفوا، إنّه لا يحب المسرفين).. و(إنّ المبذرين كانوا إخوان الشياطين..) وأحاديث كثيرة تنهى عن هذه الظاهرة السيئة، ورغم كل ذلك ينظر بعض أفراد المجتمع إلى إقامة الاحتفالات من منظور المباهاة والتحدي والغيرة أحيانا من غيرهم، وهذا ما يجعل الأمر خطيرًا وقابلا للزيادة والإفراط من حيث التمويل والتكاليف والضغط على المتبرعين ليظهر الحفل المراد إقامته أفضل من حفل الجماعة الفلانيين، أو البلدة العلانيّة، وهنا تخرج الأمور عن السيطرة.

إنّ تقنين مثل هذه الفعاليات والاحتفالات الزائدة عن الحاجة خطوة هامة للحد من الغلو في الإسراف، ودور وزارة الداخلية والجهات الرسمية المعنية يجب أن يكون حاضرًا، وعلى أصحاب هذه الحفلات والفعاليات التي يبتغون منها أثرا زائلا أن ينتبهوا إلى الفقراء والمعدمين والمحتاجين من حولهم في قريتهم أو ولايتهم ويولوهم اهتمامهم، ويوجهوا ولو جزءا بسيطا من تلك الأموال والجهود المهدرة لسد عوزهم وحاجتهم.. فذلك أبلغ نفعا، وأبقى أثرًا.