د. سيف بن ناصر المعمري
في بداية هذا الشهر، ذهبتُ إلى مكتبة "واتر ستون" في مدينة جلاسكو البريطانية لاستلام كتاب حجزه ابني -البالغ من العمر اثنى عشر عاما- في الشهر الماضي؛ وهو كتابٌ ضمن سلسلة هذا هو آخر أجزائها؛ حيث خُصص خصم لمن يحجز الكتاب قبل طباعته وعرضه؛ ولقد هالني ما قرأت على صفحة الغلاف من أنَّ عدد النسخ التي بيعت قبل العرض أكثر من "مائتي مليون نسخة"؛ لا لأنني أعرف لأول مرة أن هذه الشعوب تقرأ، فذلك مُلَاحَظ في كل مكان حيث الكتاب في أيديهم يشبه "الهاتف المحول" في أيدينا، سواء كانوا في الكافيه أو القطار أو المطار أو بعض أماكن القطار، أو في السوق حيث يحمل بعضهم الكتب في يد وفي اليد الأخرى بقية الاحتياجات؛ في مؤشر على التوازن في تحقيق متطلبات العقل ومتطلبات الحياة الأخرى؛ وفي الواقع فإنَّ هذا الموقف وغيره أثار لديَّ تساؤلات عدة: من أين تأتي هذه الرغبة في القراءة والتي تقود لتوزيع كُتب مُخصَّصة للصغار بهذه الأعداد الضخمة قبل عرضها؟
اكتشفتُ شيئا فشيئا أن السر يكمُن في التعليم الثري بتعليم القراءة وتشجيعها؛ فالقراءة هي عمود تعليمهم كما هي الصلاة عمود إيماننا؛ فالمدارس هي المروج الأول للقراءة وليس المكتبات؛ وما يحصل من إقبال على الكتب التي تصدر بين فينة وأخرى هو نتاج ما تقوم به المدارس من تعليم للقراءة بطرق غير تقليدية؛ وما تقوم به من أنشطة مستمرة للقراءة، فعلى سبيل المثال كان الأسبوع الماضي في المدارس الثانوية يسمى "Book week"؛ وهنا أتكلم عن مدارس أسكتلند، والهدف منه هو تبادل الكتب بين الطلاب بعضهم البعض والأساتذة، من خلال تخصيص طاولات طوال الأسبوع يتم عرض الكتب فيها، ويأخذ الطلاب الكتب التي لم يقرأوها ويعيدونها بعد ذلك؛ والمدرسة بهذا تبعث برسالة معرفية شديدة التأثير لهذه الأجيال الصغيرة، وهي "لابد أن تقرأوا"؛ لا أحد يقول لهم ركزوا فقط على المنهج لا داعي للمعلومات الخارجية؛ فذلك سيقود إلى تشتيت أذهانكم الصغيرة ويؤثر على تحصيلكم؛ لا أحد هنا يُردِّد مثل هذه الرسائل غير البناءة التي تغلق العقل عن التفكير، وتحدِّد له مسارات ضيقة لبناء الوعي؛ ومثل هذه الرسائل غير مقتصرة على الطلاب الكبار، وإنما أيضا لطلاب المدارس الابتدائية الذين منحوا أيضا حقيبة بها ثلاث قصص في حقيبة جميلة بها بعض الأنشطة والألعاب البسيطة المتعلقة بالقراءة والكتابة والحساب، مقدمة بتعاون من عدة السلطات التربوية ونادي أولياء الأمور الالكتروني، ومؤسسة كتاب أسكتلند؛ وقبل نهاية الأسبوع طلب من كل واحد منهم إحضار القصة المفضلة لديه إلى المدرسة لقراءتها مع زملائه؛ وأتمنى أنْ لا يُفهم أن هذا الاهتمام بالترغيب في القراءة، وبناء العلاقة القوية مع القصص والكتب مرتبط فقط بهذا الأسبوع؛ فهو مُستمر بشكل أسبوعي من خلال عملية تعليم القراءة بشكل مختلف لكلا المراحل الدراسية، والتي تتمُّ في المدرسة وأيضا بالشراكة مع البيت؛ المهم هو القراءة والارتباط بالكتاب هذا مُحرك أساسي في هذا النظام التعليمي.
فالقراءة يتم بناؤها كالعادة بشكل يومي من أيام الدراسة؛ فطلاب المرحلة الابتدائية يتم إعطاؤهم قصصًا صغيرة ذات نهاية مفتوحة منها يتعلمون القراءة والمفردات؛ ومن خلالها أيضا يتم تنمية الخيال والإبداع لديهم؛ لأنه يُطلب منهم عمل نهاية لكل قصة وكتابتها في البيت، وفي المدرسة تُقرأ لهم بعض القصص الطويلة من قبل المعلمة لكي يتعلموا الإنصات؛ والكتب في الأصل جزء من بيئة الصف في الأرفف التي تحيط بالطلاب؛ أما طلاب المرحلة الثانوية فيتم توفير الكتب حديثة الإصدار عبر العَالَم لهم في المكتبة؛ ويكون الاختيار ليس إجباريًّاو إنما حسب اهتمامات الطالب؛ فلا يجبر علي كتاب واحد مُقرر من قبل المدرسة؛ وإنما يذهب إلى النظام ويختار منه أين يوجد الكتاب، ويأخذ الكتاب وبعد الانتهاء من القراءة يعود للنظام الإلكتروني ويجد أسئلة حوله لقياس فهم يتم تصحيحها فورا وبعيدا عن المعلم الذي دوره هو الاطلاع على ملف الطالب لتعرف نوعية الكتب التي قرأها الطالب وعددها ومستوى فهمه لها؛ هذا ما يجري في المدرسة، ولكن هناك أيضا قراءة في المنزل على الأقل ساعتين كل أسبوعين؛ تتم متابعتها عبر إرسال استمارة لأولياء الأمر للتوقيع للطالب إن أنجز المدة المحددة أو عدم التوقيع لهم إن لم ينجز، وهذا سيكون له تأثيره على مستوى تحصيله، هذا فضلا عن التشجيع بالرحلات الذين ينجزون قراءة أكبر عدد من الكتب من خلال أخذهم إلى أماكن محببة لهم مثل السينما.
... إنَّ المدرسة بمنهجها وأنشطتها تعمل على جعل القراءة مهارة وعادة عند الطلاب؛ وما نراه من إقبال على الكتب في هذه المجتمعات هو بلا شك نتاج هذه العادة التي تغرس شيئا فشيئا عبر مراحل دراسية مختلفة؛ والعملية هنا ليست تنمية حب القراءة لتحسين اللغة، وإنما هي قراءة لتنمية المعنى والفهم والإنفتاح العقلي والإبداع والخيال... وغيرها من الأهداف الكبيرة التي تحتار عادة كثير من الأنظمة التعليمية في تحقيقها؛ وتبحث عن أساليب وآلية، لكنها تلجأ إلى المعالجات البسيطة والسطحية، وتنسى أن العملية تراكمية تحتاج إلى جهد وبناء شيئا فشيئا؛ شيء آخر وعلى قدر كبير من الأهمية لا أحد هنا يتكلم عن استبدال الكتب الورقية بالكتب الإلكترونية، رغم أنَّ التكنولوجيا تسيِّر معظم أنشطة الحياة هنا بدقة وسرعة وكفاءة، وهي رسالة إلى البعض منا ممن يحاولون أن يُضعفوا العلاقة مع الكتاب من خلال الاستعاضة بجهاز؛ فهنا أيضا يراعون الصحة في التربية، وهذا مسار آخر لا يتسع المقام هنا للحديث عنه؛ وعلى أية حال: هل تودون أن تزدهر القراءة ويزيد الطلب على الكتب في مجتمعاتنا ربُّوا هذه العادة عند الجيل الصغير إن كان من الصعب إقناع الجيل الكبير بها؟
هذه دعوة لتقود المدارس زمام التغيير بهدوء وتدرُّج نحو بناء جيل معرفي مرتبط بالغذاء العقلي بدلا من إبعاد هذا الجيل الصغير عن القراءة والكتب؛ خمس سنوات كفيلة لأن تغير لنا الكثير في مستوى قراءة الإنسان العربي التي اختلف فيها المنجمون والإحصائيون في متوسطها، بعضهم قال إنها تبلغ ست دقائق في العام فقط، وبعضهم قال إنها أكثر أو أقل من ذلك.