عبيدلي العبيدلي
وبفضل تعقيداتها، وسعة مساحة نطاق العمليات التي تمارسها، تعددت مفاهيم الرقمنة، وتنوعت المجالات التي تغطيها، لكن الأبسط بينها، والأكثر تغطية للفهم العام، هو ذلك التعريف الذي تأخذ به الموسوعة الإلكترونية "ويكيبيديا"، الذي ينص على أن الرقمنة، هي في جوهرها " عملية تمثيل الأجسام، الصور، الملفات، أو الإشارات (التماثلية) باستخدام مجموعة متقطعة مكونة من نقاط منفصلة. وتعني أيضا التحول في الأساليب التقليدية المعهود بها إلى نظم الحفظ الإلكترونية، هذا التحول يستدعي التعرف على كل الطرق والأساليب القائمة واختيار ما يتناسب مع البيئة الطالبة لهذا التحول. والتحول إلي الرقمية ليس صيحة تموت بمرور الزمن، بل أصبح أمرا ضروريا لحل كثير من المشكلات المعاصرة من أهمها القضاء علي الروتين الحكومي وتعقد الإجراءات في ظل التوجه إلى الحكومات الإلكترونية، وكذلك القضاء على مشاكل التكدس وصعوبة الاسترجاع".
وكأي نشاط إنساني آخر، تحدث الرقمنة مجموعة من التحولات ذات الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية. ولو حصرنا الأمر في الأولى فقط، فيمكننا الاستعانة بدراسة موسعة، شاملة أجرتها شركة الاستشارات الدولية الاستراتيجية "بوز أند كومباني"، حاولت من خلالها أن تصل إلى تشخيص مردودات "الرقمنة" الإيجابية الملموسة على الأداء الاقتصادي لدولة ما، من خلال مسح ميداني، غطى 150 بلداً، خلال الفترة الممتدة بين عامي 2004 و2010. وكان من بين النتائج المهمة التي توصلت لها تلك الدراسة أن الرقمنة تساهم "في نمو إجمالي الناتج المحلي للفرد، وتساهم في عملية استحداث الوظائف وتحفز الابتكار.. وأن ارتفاعاً في الرقمنة بنسبة 10 في المئة يؤدي إلى ارتفاع بنسبة 0.6 في المئة في إجمالي الناتج المحلي للفرد... وأن ارتفاعاً بنسبة 10 في المئة في خدمات النطاق العريض تؤدي إلى ارتفاع بنسبة تتراوح بين 0.16 و0.25 في المئة فقط في إجمالي الناتج المحلي للفرد. ... وأن ارتفاعاً بنسبة 10 في المئة في الرقمنة يقلص نسبة البطالة في بلد معين بمعدل 0.84 في المئة".
الأهم من كل ذلك وكما جاء في تلك الدراسة أن “ارتفاعا بنسبة 10 نقاط في الرقمنة، (يقود) إلى ارتفاع بست نقاط في ترتيب بلد معين في مؤشر الابتكار العالمي".
على أنه من الضرورة بمكان الإشارة إلى أنه، ومهما بلغ المستوى الذي يمكن ان تحققه دولة معين على طريق التحول الرقمي، فإن هذا التحول لا يتم في فترة زمنية معينة، إذ إن عملية التحول الرقمي هي عملية مستمرة في المجتمع الذي يبحث عنها. وأكثر من ذلك فهي لا تتحقق بذات النسبة، او حتى الوتيرة ذاتها، في ذلك البلد. هذا ما تنوه له وثيقة صادرة عن الاتحاد الدولي للاتصالات (ITU)، التي جاء فيها، عند تناولها هذه المسألة، قائلة " الإيكولوجية للابتكار في البلدان المتقدمة والبلدان النامية على مسارين مختلفين بالنسبة للنمو فإن أي اقتصاد لا يبتكر أو يقوم بالرقمنة، ككل غير تمييزي؛ فإن بعض القطاعات ستتطور بسرعات مختلفة. فقد يقوم قطاع الخدمات المالية بالابتكار قبل التعدين، أو الزراعة. بينما قد تتطور الخدمات العامة أو التصنيع بوتيرة متوسطة. بيد أن النموذج القائم على تكنولوجيا المعلومات والاتصالات يفترض أن الابتكار في قطاع تكنولوجيا المعلومات والاتصالات وخلافه يمكن أن يدفع بالابتكار في القطاعات الرأسية الأخرى مع تبادل التكنولوجيات والنماذج".
وإحدى الضمانات، أو بالأحرى المتطلبات، التي يمكن ان تقود نحو التحول السلس، الأكثر مرونة، وربما الأقل تكلفة، في اتجاه رقمنة مجتمع معين، هو بناء النظام البيئي (Ecosystem) الملائم لذلك المجتمع، والذي يقوم على خمس ركائز مركزية هي:
الاتفاق على استراتيجية، وطنية، واضحة المعالم، محددة الأهداف، قابلة للتنفيذ من جانب، ومتمكنة من تحقيق الفائدة القصوى من الموارد الوطنية المتاحة، وفي المقدمة منها تلك الموارد البشرية الكفؤة والمناسبة. ولا بد هنا من التحذير من ذلك النقل المباشر الأعمى لاستراتيجيات دول أخرى، حققت نجاحات ملموسة في بلدانها، لكنها ربما لا تكون الأنسب للدولة التي تحاول تقليدها. فلكل مجتمع خصائصه التي يتفرد بها عن مجتمع آخر.
المراعاة الواعية، والحذرة في آن عند التعامل مع الخلفية الحضارية/الثقافية للمجتمع الذي يطمح للتحول نحو الرقمية. إذ لا بد أن يتحاشى ذلك التحول الاصطدام بتلك الخلفية، إلى عندما تتحول إلى عائق يحول دون التحول الرقمي المنشود. هذا يقتضي الموازنة الدقيقة الحذرة بين المواجهات الطفولية النزقة، والمعارضات المهنية الراقية. ففي حين تحرف الأولى مشروعات الرقمنة عن طريقها السليم، تأخذ الثانية بيد المجتمع، نحو الأهداف المرجوة، بكلفة أقل، وفترة زمنية أقصر.
اختيار التكنولوجيا الأكثر ملاءمة، ومن ثم قدرة على تلبية احتياجات تلك الاستراتيجية، وهو أمر يكتسب مكانة في غاية الأهمية. ففي يومنا الحاضر، تكتظ الأسواق، بما فيها المحلية، بعشرات التقنيات، التي قد تبدو كل منها مناسبة للاستراتيجية الموضوعة، لكنها، عند الغوص في التفاصيل، وعند الامتحان، تخفق في التواؤم مع الاستراتيجية المتبناة. هذا يستدعي، وفي كل مرحلة من مراحل وضع الاستراتيجية، التنبه لمسألة الاختيار الصحيح للتكنولوجيا الأكثر ملاءمة، بما ذلك قضايا الكلفة المالية، على سبيل المثال لا الحصر.
التحديد السليم والدقيق في آن، للقنوات الملائمة القادرة على خلق العلاقة المناسبة المنتجة، والمثمرة في آن بين الاستراتيجية الموضوعة، والأهداف التي تسعى تلك الاستراتيجية لتحقيقها. ففي غياب مثل تلك القنوات، تبقى تلك الاستراتيجية، ومن ثم الفائدة المتوخاة من التحول الرقمي، إلى مجرد خطة صماء مشلولة، حبيسة الأوراق التي دونت عليها، قابلة للموت في أية لحظة، ولأسباب قد تبدو واهية.
المواطن، أو على نحو أكثر تحديدا "الزبون" الذي تخاطبه استراتيجية التحول الرقمي. فما لم يتم تحديد الفئات المجتمعية التي تخاطبها، بل وتخدمها استراتيجية التحول الرقمي، في كل مرحلة من مراحل ذلك التحول، ستجد تلك الاستراتيجية نفسها امام سد تناطحه، أقامه من توهمت أنها تخدمهم، أو تسعى لإدماجهم في عملية التحول الرقمي.
وعلى هذا الأساس فالرقمنة، او التحول الرقمي، هي عملية شاملة متكاملة، ذات أبعاد متعددة، وليست كما قد يتوهم البعض منا، مجرد تكديس العشرات من الحواسيب العملاقة، او شراء باقة من البرمجيات المعقدة، الباهظة الثمن.
في اختصار هي قرار وطني واع ومسؤول.