عبدالله العليان
لا شك أن القيم الفكرية تظل ثابتة لا تتغير مع تغير الظروف والمعطيات الكثيرة التي ليست أساسية في ثقافة الشعوب، لكن التفاصيل في تطبيقها هي التي تختلف، بحسب الظروف والتحولات؛ فالقيم التي تتعارف عليها الأمم والثقافات ليس من السهل تغييبها أو إقصاؤها من التداول والمعايشة الفكرية، وعدم التنازل عنها مسألة مهمة؛ كونها من الثقافة التي لا يمكن التنازل عنها لثقافات أخرى تختلف عنها فكريًّا.
ومصطلح السياسة في أمة العرب والمسلمين، كان مقرونًا بمفهوم الرشد والتهذيب، والتدبير السليم، حتى إنَّ الإمام أبا عبدالله بن محمد القلعي -الذي عاش في مدينة مرباط بمحافظة ظفار- وضع كتاباً سماه "تهذيب الرياسة وترتيب السياسة"، ومع مَكانته العلمية يكاد لا يعرف عنه أحد، إلا فيما ندُر من بعض الباحثين القلائل، وفي سطور عابرة. وهناك كتب غيره في هذا المضمار، طرحت مفهوم السياسة، ومجالها القيمي الذي يرافق السياسة، لكن للأسف بعض هذه الكنوز الفكرية في هذا الجانب المهم الذي اعتنى به بعض العلماء لم تلق ذاك الاهتمام المبتغى لأسباب معروفة، منها: قضية التراجع الحضاري والعلمي الذي غيَّب الأمة لفترة طويلة ولا تزال للأسف تعيش بقدر لا يمكن نكرانه!
ونتيجةً للاحتكاك بالحضارة الغربية المعاصرة، وفي ظلِّ التخلف والتراجع العربي والإسلامي على مستويات كثيرة في القرن التاسع عشر والقرن العشرين، اختلَّت هذه المفاهيم في واقعنا، خاصة بعد احتلال الاستعمار لمعظم البلدان العربية، ومحاولاته الحثيثة فرض مفاهيمه الفكرية والثقافية والسياسية، بالترغيب حيناً وبالجبروت حيناً آخر.. ونجح في بعض ما أراده من مُخطَّطات لا شك، لا يتَّسع المجال للسرد، وبدأت تظهر إلى السطح العربي، وبعض من تأثَّروا بالفكر الغربي كانوا في مصر والشام والعراق، الأفكار السياسية الغربية؛ من خلال المؤسسات العلمية والبحوث الدراسية، ومن خلال بعض الأساتذة الغربيين، وجُلُّهم من المستشرقين، ولعل أهمها البعثات الدراسية التي شجَّعها الاستعمار، لا من أجل إرساء العلم الخالص والفكر النهضوي المستقل عن التأثير الغربي لانتشال الوضع المتخلف لواقعنا العربي، بل من أجل -كما يقول د. محمد عابد الجابري- إرساء مفاهيمه وأفكاره ومخططاته، كمُحصِّلة لسياسة الاختراق هذه: "وإذا كان الأيديولوجي هو صراع حول تأويل الحاضر وتفسير الماضي والتشريع للمستقبل، فإنَّ "الاختراق" يستهدف الأداة التي يتم بها ذلك التأويل والتفسير والتشريع: يستهدف الفعل ووسيلتهما في التعامل مع العالم: "الإدراك" أي نعم الإدراك".
وانتشرت الفلسفات والنظريات الغربية في الحكم والسياسة والفكر عمومًا، مثل المكيافيلية الشهيرة -نسبة إلى الفيلسوف الإيطالي "مكيافيلي"، صاحب كتاب "الأمير"، والذي اشتهر بمقولة "الغاية تبرر الوسيلة"- و"البارتيونية" -نسبة إلى "بارتيو"، أو ما يُسمَّى بـ"حكومة الصفوة" ومراتب الطبقات- و"الماركسية" نسبة إلى كارل ماركس، التي تُؤسِّس إلى صراع الطبقات، وسيطرة الكادحين، لمُحاربة الإمبرياليين...إلخ. كل هذه الفلسفات أقصت الكثير من القيم والأخلاق المعتبرة، واعتبرتها غير ذات قيمة مادية أو فكرة عتيقة بالية، عندما تكون هناك وسيلة وغاية أخرى، إلا أنَّ "مكيافيلي" -كما يقول د. فتحي الدريني- هو الذي أثار مسألة العلاقة بين السياسة وبين القيم الإنسانية، أو السياسة والدين جملة، فكان فصل السياسة عن أولئك فصلاً تاماً "السياسة أولاً"، ومبدأ "الغاية تبرر الوسيلة"، ومبدأ "الحق للأقوى"، ومبدأ "الفضائل السياسية"، ومبدأ "فن الوصولية"، و"التكتيك السياسي"، بوجه عام، وهذه الأصول التي نهضت بالفلسفة "السياسية المكيافيلية"، هي التي تلقاها رواد الفكر السياسي الحديث، بل والمعاصر".
وقد لا نغالي إذا قلنا إنَّ الانحراف الذي حصل في انفصام المفهوم السياسي عن معياره الذاتي، خاصة بعد استقلال الكثير من الدول العربية في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، والبُعد عن داخل التراث العربي الإسلامي، أدى لما يُشبه المعضلة السياسية في كيفية الخروج من مأزق استجلاب الأفكار والسياسات والنظم، من خارج الأوطان، والتي وقعت في مشكلات كبيرة، تُذكِّرنا بالقصة الأسطورية المعروفة لـ"الديك" الذي أراد يوماً أن يُقلِّد الطاووس، فلا هو عرف تقليدها في مشيتها، ولا استطاع العودة لمشيته السابقة، ومن هنا تفرَّقت الدول، وتحول السياسيون إلى مقلدين، فبعضهم لجأ إلى النظم الليبرالية، بكل ظروفها وفلسفاتها، وبعضهم طبَّق الفكر الماركسي، واجترار الصراع الطبقي، دون أن تكون هناك طبقات واقعية للصراع وفق هذا المفهوم، وبعضهم وقع في قصة مشية "الديك للطاووس"، لا هذا ولا ذاك، فتحوَّلت الأمور إلى انقلابات وصراعات، وتوترات منذ الخمسينيات من القرن الماضي، ولا نزال في المربع الأول. ولا شك أنَّ هناك تقاطعاً في مفاهيم السياسة ومضامينها في المصطلح العربي الإسلامي عنه في المصطلح الغربي في جوانب كثيرة، لكن أيضا من الحق أن الغرب لم يبق في نفس المربع للأفكار التي أشرنا إليها منذ بروز الكثير من الفلسفات المختلفة، فتطوَّرت الديمقراطيات، وأصبح العقد الاجتماعي السياسي منضبطاً، وهناك ضوابط أخلاقية للممارسة السياسية، ترتفع إلى مستويات جديرة بالاحترام، ونتمنى أن نقلد هذه الأخيرة، لأنها ستأتي بالاستقرار، لكن تظل الأمة بحاجة للاستمداد من داخلها أولاً، والحفر في تراثها للأخذ والمراجعة، لما هو جدير بالتطبيق الواعي والسليم لما هو أنفع وأفضل لواقعنا.