الانتخابات في الميزان

مدرين المكتومية

يوم وطني مشهود عاشته البلاد في السابع والعشرين من أكتوبر الجاري.. يوم مثّل ملحمة وطنية بكل ما تحمله الكلمة من معانٍ.. يوم شهد إقبالا غير مسبوق من الناخبات والناخبين على المراكز الانتخابية للإدلاء بأصواتهم واختيار من يريدون أن يمثلهم في مجلس الشورى..

وهذا الإقبال الكبير من قبل الناخبين ترجمة حقيقية لمدى الوعي المتطور في مجتمعنا، بعد تجربة شوروية انطلقت قبل عقود من اليوم، وتدرجت بأسماء مختلفة حتى وصلت إلى مجلس الشورى في صورته الحالية وصلاحياته القائمة، وهذا الاهتمام من قبل المواطنات والمواطنين يؤكد مدى الحرص على ممارسة الحق الانتخابي بين قطاعات عريضة من أبناء المجتمع، وفي المقابل أيضا أبرز عدد المرشحات والمرشحين سمة إيجابية تعكس الرغبة الذاتية لدى عدد كبير من المواطنات والمواطنين لتصدّر المشهد العام، والعمل على خدمة ولايتهم في مختلف النواحي، فضلا عن الإسهام في رسم مستقبل الوطن لمدة 4 سنوات مقبلة.

الوعي المتنامي الذي شهده المجتمع خلال الفترة الأخيرة ومستوى المنافسة الانتخابية بين المُرشّحات والمرشحين أكّد أنّ عماننا قطعت شوطًا كبيرًا على مسار التطوّر الشوروي، وهي القيمة التي تنبع من أصالة هذا المجتمع المتمسّك بتقاليده المستمدة من الدين الإسلامي الحنيف، الذي وضع مبدأ إنسانيا رائعا "وأمرهم شورى بينهم"، فلا ينفرد أحد برأي ولا يقتصر اتخاذ القرارات على جهة بعينها، بل على الجميع من مؤسسات وأفراد أن يساهموا في وضع الخطط والاستراتيجيات التي تضمن أن يعيش المواطن حياة كريمة.

أودُ في هذه السطور أن أسلّط الضوء على نقاط معنية رصدتُها من خلال متابعتي وتغطيتي لهذه الانتخابات منذ بدء الإعداد لها، أول هذه النقاط الدور الملموس لوزارة الداخلية واللجنة الرئيسية للانتخابات بجميع أعضائها من مختلف الجهات، القائمين على أمر انتخابات الشورى، والذين بذلوا جهودًا مضنية من أجل أن يخرج المشهد الانتخابي في أزهى حلة، ولقد رأيتُ بنفسي عددا من كبار المسؤولين وموظفي الوزارة ماكثين في مكاتبهم لساعات ممتدة من الليل، وفي يوم التصويت لم يخلد أحدهم للراحة لمدة زادت عن 22 ساعة. نحن إذن أمام جهد حثيث يجب أن يكون محل تقدير من الجميع.

النقطة الثانية: ترشح 40 امرأة للمنافسة على عدد من المقاعد في الانتخابات، فعلى الرغم من أنّ مرشحتين فقط هما من استطاعتا أن تنالا أكبر عدد من الأصوات في ولايتي صحار ومطرح، وفازتا في الانتخابات، إلا أنّه يمكن القول أنّ ترشح 40 امرأة برهن على دور المرأة الفاعل في المجتمع، واستعدادها لخوض غمار العمل العام، ومن يمن الطالع أنّ هذا العدد الكبير تزامن مع احتفالات السلطنة بيوم المرأة العمانية. وبدون أي تحيّز لأخواتي النساء، أؤمن بشدة أنّ المرأة قادرة على القيام بالعديد من المهام مثل الرجل تمامًا، بل ربما تتفوق عليه في مهام بعينها، فهي القوة والحماس والمثابرة والانطلاق في العمل.

النقطة الثالثة: أنّ هذه الانتخابات شهدت إجراءات غير مسبوقة تمّ تطبيقها لأوّل مرة في تاريخ انتخابات الشورى بالسلطنة، حيث تمّ تطبيق التصويت عن بعد للناخبات والناخبين في الخارج وكذلك أعضاء اللجان الانتخابية والإعلاميين، وكذلك تطبيق التصويت الإلكتروني والفرز الإلكتروني. ولذا يمكن القول إنّ هذه أول انتخابات إلكترونية بالكامل، فبجانب ما سبق، فقد كانت عملية تقديم طلبات الترشح والقيد في السجل الانتخابي تتم عبر طرق إلكترونية، دون استخدام أي وسائل تقليدية غير إلكترونية. وكل ذلك من شأنه أن يعزز النزاهة والمصداقية في هذه العملية الانتخابية، والتي شهد لها القاصي والداني، رغم بعض التحديات التي لم تؤثر على سير الانتخابات كما رصدنا وتابعنا.

النقطة الرابعة: لأوّل مرة أيضا يتم منح الناخبة والناخب حق عدم التصويت لأي مرشح، ولذلك وجدنا أكثر من 2800 مواطنة ومواطن، قرروا اختيار "لا أرغب في ترشيح أحد"، وهذا انعكاس على حرية الاختيار التي ترسخها العملية الانتخابية، وأنّ لكل شخص الحق في اختيار مرشح بعينه أو عدم الاختيار، فالأمر متروك للناخبين ومدى رضاه عن المتقدمين من أبناء ولايته لتمثيله في المجلس.

هنا علينا أن نقف أمام هذه النقاط وغيرها، لكي نمعن النظر فيما أفرزته التجربة من نتائج، والتي أكدت التطور الواضح في الممارسة الشوروية. وهذه الرؤية الإيجابية لما شهدته انتخابات الشورى في فترتها التاسعة، تدفعنا إلى تقييم ما اعترى هذه العملية من تحديات، لعلّ أبرزها الزحام الشديد على المراكز الانتخابية؛ بفضل توافد أعداد كبيرة من الناخبين والناخبات للإدلاء بأصواتهم، مما دفع بالبعض إلى الشعور بالملل أو الانتظار لوقت متأخر من أجل التصويت، ولذلك قررت اللجنة العليا للانتخابات تمديد التصويت لساعتين في كل المراكز الانتخابية. هذا إلى جانب تحديات أخرى مثل انقطاع الانترنت والكهرباء في بعض المراكز.

ولكن.. يمكننا القول أنّ عملية الانتخابات تمّت في إطار من الشفافية والنزاهة ونجحت في إنتاج مجلس شورى جديد، 55 عضوًا من إجمالي 86 هم أعضاء جدد، ولذلك كلي يقين بأنّ أي تحديات سيتم تجاوزها في الانتخابات المقبلة بعد 4 سنوات من الآن، وسنحتفل أيضا وقتئذ بتجربتنا الشوروية المزدهرة.