اقتصاد الإبداع

 

عبيدلي العبيدلي

نقل موقع الصين اليوم الإلكتروني، عن صحيفة تصدر في منطقة هونغ كونغ أن "(اقتصاد العُزَّاب) الذي أصبح يقدم خدمات ومنتجات مخصصة لعدد متزايد من المستهلكين حقق تطورا كبيرا في البر الرئيسي، مشيرة إلى أنّه يمكن أن يطلق عليه (سوق العزّاب). وأوضحت الصحيفة أن سوق العزّاب يمتلك قطاعين متقدمين بالفعل لاعتمادهما على مجموعة عوامل أهمهما الإبداع والكفاءة، وهما قطاع الأجهزة المنزلية الصغيرة وقطاع مطاعم العزّاب. ويرى مراقبون أنّ تطور (سوق العزّاب) يرجع في الأساس إلى ارتفاع طلب هذه الشريحة من المجتمع على المنتجات والخدمات الخاصة، مع الاهتمام بالجودة". ويبدو أنّ هناك محاولات متزايدة ومتكررة للوصول إلى مفهوم محدد بشأن "اقتصاد الإبداع".

وقد اخترق تعبير "الاقتصاد الإبداعي"، الأدبيات الاقتصادية، وصار التعبير متداولا حتى في الأدبيات الصادرة عن مؤسسات محافظة، مثل الأمم المتحدة التي تبنته، وقننت المقاييس التي تضع اقتصادًا معينا، أو سلعة معينة في منظومة الاقتصاد الإبداعي.

وجاءت أول الاجتهادات الحديثة، الهادفة إلى تأصيل هذا المفهوم على يد الباحث البريطاني "جون هوكنز"، الذي يعد "خبيرا بارزا في مجال الأعمال التجارية الإبداعية"، الذي حاول أن "يجمع لنا جميع هذه المكونات (الإبداع، والملكية الفكرية، والإدارة، ورأس المال، والثروة) ضمن إطار شامل نتج عنه هذا الدليل العملي الذي سماه (اقتصاد الإبداع)". الصادر في العام 2001، الذي "حصر 15 نشاطا تشمل مجالات متنوعة، تبدأ بالفنون، وتمتد لتشمل مجالات العلم والتكنولوجيا. وقدَّر حينها "هوكنز" حجم معاملات هذا الاقتصاد في مختلف أنحاء العالم بما يعادل 2.2 تريليون دولار".

ومن المحاولات الجادة لتأطير مفهوم وقيم هذا الاقتصاد، تلك التي قام بها "مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (الأونكتاد) في تقريره الأول الصادر عام 2008 حول تقييم الاقتصاد الإبداعي على مستوى العالم، جاء فيه أنّ الاقتصاد الإبداعي هو ذلك النمط من النشاط الاقتصادي الذي يقوم على استغلال الأصول الإبداعية التي يمكن أن تولّد النمو الاقتصادي، وتقود إلى التنمية الاقتصادية. كما عرَّف (الأونكتاد) الصناعات الإبداعية بأنّها تلك السلع والخدمات التي تستخدم الإبداع ورأس المال الفكري كمدخلات أولية، والتي تشمل 4 مجموعات، هي: التراث، والفنون، ووسائل الإعلام، والإبداعات الوظيفية".

ولم يعد "الاقتصاد الإبداعي، مفهوما مجردا يتداول في فصول الدراسة، بل تحول إلى أرقام ملموسة تحققها دول متقدمة من مستوى ألماني إذ أشار تقرير صادر في العام 2017، بشأن الاقتصاد الإبداعي في ألمانيا، إلى أن هذا القطاع "يشكل واحدا من قطاعات المستقبل الواعدة المتمتعة بإمكانات هائلة. وهو يبرز بقوة، خاصة في المدن الكبيرة... (حيث) تزداد مساهمة هذا القطاع في مجمل الأداء الاقتصادي الألماني (إجمالي القيمة المضافة) باستمرار، ويكاد اليوم يصل إلى ذات المستويات التي تحققها قطاعات صناعية رائدة، مثل قطاع بناء الآلات. فقد وصل حجم مبيعات قطاع الإبداع لعام 2016 في حوالي 253000 شركة، يعمل فيها 1,6 مليون إنسان، إلى حوالي 154 مليار يورو. وتسعى الحكومة الاتحادية إلى دعم قطاع اقتصاد الثقافة والإبداع بشكل خاص، وتعمل لهذه الغاية على تطوير آليات وأشكال الدعم والتمويل. وقد تمكن هذا القطاع في العام 2016 من تحقيق حجم مبيعات، وصل إلى 29 مليار يورو".

ولم يكن العرب بعيدين عن هذا النمط من الاقتصاد، ففي تقرير صادر عن الأمم المتحدة في العام 2010 "صنفت الأمم المتحدة دولة الإمارات ضمن أفضل 10 اقتصادات تقود التحول نحو الاقتصاد الإبداعي في الاقتصادات النامية، وذلك بعد أن تجاوز حجم تجارتها في الصناعات الإبداعية، وما يرتبط بها من سلع 40,78 مليار دولار... إنّ دولة الإمارات كانت ثاني أكبر مصدر لهذه الصناعات في منطقة غرب آسيا بعد تركيا، بإجمالي صادرات بلغ 4,76 مليار دولار في العام 2008، وذلك مقارنة مع 2,9 مليار دولار في العام 2007. وقدر التقرير حجم الصناعات الابداعية والسلع المرتبطة بها في الإمارات بنحو 69,7 مليار دولار، وفقا لأحدث تقديرات متاحة حتى نهاية العام 2008".

الملفت للنطر هو ذلك التقدم الذي حققته الصين على المستوى الدولي في هذا المضمار، فوفقا لذلك التقرير "تفوقت الصين على كل دول العالم بفارق كبير في هذه التجارة القائمة على الإبداع، حيث استحوذت على 20,8% من هذه السوق خلال الفترة من 2002 إلى 2008، بينما اقتصر نصيب الولايات المتحدة، التي أتت في المرتبة الثانية عالميا، على 8،6% فقط".

 لفتة تستحق التوقف عندها، تتعلق بالاقتصاد الإبداعي، توافينا بها من مصر، خريجة كلية التربية، والتي تحضر رسالة دكتوراه في الموضوع ذاته دنيا ناصيف، التي "ترى أن الأزمات الاقتصادية التي تمر بها الأسر والمجتمعات يمكن أن تخفف حدتها من خلال تقديم حلول إبداعية، لذلك صنعت مع تلاميذها من مخلفات البيئة لوحات متنوعة، واستخدمت معجون ورق الجرائد والزجاجات الفارغة والخيوط والمعادن لتطوير قدرات الأطفال، الذين وجدوا الرعاية ذاتها من أسرهم بعد انتهاء اليوم الدراسي أو في فترة الإجازات". 

وكما بدأنا بالخبير الاقتصادي جون هوكنز، ننهي هذا المقال بمقطع جاء في كتابه "اقتصاد الإبداع"، أكد فيه على أن "الإنسان كائن إبداعي، ويستطيع أن يجعل من إبداعه موردا ماليا بالإضافة إلى كونه أداة لتحسين حياته باستمرار، ومن القواعد والنصائح التي يقدمها: طور نفسك، كن فريدا، وحافظ على أفكارك قانونيا، واستوعب مجال حقوق النشر وبراءات الاختراع، وقرر متى عليك أن تعمل بمفردك ومتى عليك أن تعمل في مجموعة، وتعلم إلى ما لا نهاية، اقتبس وأعد اختراع الأشياء واستخدامها، وتعلم متى يجب أن تتجاوز القواعد".

لكن يبقى هذا الإنسان المبدع، لا يكف ولا يألو جهدا في بحثه عن تلك البيئة، أو بالأحرى النظام الذي يستقبله، ويحول أفكاره من مجرد أحلام شخصية، إلى لبنة من لبنات اقتصاد الإبداع. الذي لا ينبغي حينها أن يقتصر أداؤه على تلبية احتياجات "العزاب" فحسب، بل يأخذ بيد الاقتصاد برمته.