مشاركة الغايات
د. صالح الفهدي
يقول العميد ستانلي ماكريستال مؤلّف كتاب "القادة: الأسطورة والواقع": "أنّ القيادة تبدأ بمشاركة الغايات"، وهي مقولة ذات بعد استراتيجي في صناعة المستقبل، خاصّة في النتائج التي تتمخّض عنها، فإذا تخيّلنا أن كتيبة من الجند لا تعرف الغاية التي تحرّكت من أجلها، ولا أقصد هنا الاتجاه الذي قد يخفيه القادة عنها إلى مدى معيّن، فإنها إن لم تؤمن بالغايات إيمانا ثابتا فإنّها قد تواجه هزيمة نكراء في المهمة التي تواجهها.
وإذا تمعّنا الآن في المفردة الغامضة التي كثيرا ما نتطرّق إليها في مؤسساتنا المختلفة، وفي بيوتنا، وحياتنا العامة، وهي مفردة "المستقبل"، فإنني أعني أنّ الغموض الذي يكتنفها يكمن في أنّها كلمة مجرّدة من المعنى..! مجرّدة من المضامين! فماذا يعني نطقنا للمستقبل، الذي كثيرا ما نصفه إيجابا فنقول: المستقبل المشرق، المستقبل الواعد، المستقبل الزاهر، أو نصفه سلبا فنقول: المستقبل المجهول، المستقبل الغامض. وهذا يدلّ على أننا نحمل كلمات مجرّدة لا تتضّح فيها غايات معيّنة..! فما قيمة أن يتعلّم الطلاّب مفردة المستقبل في حين أنّ هذه الكلمة ليس لها مضمون يشير إلى الغايات؟! هذه الغايات هي التي تخلق الباعث في النفوس للعمل من أجلها، فإن لم يصاحبها مضمون معيّن يوضّح الغايات التي ينشدها قادة الوطن، فإن مفردة "المستقبل" ستظلّ غائمة، مبهمة..!
وحينما كنت أتابع المناظرة التي جمعت مرشّحي رئاسة بلد عربي، لم ألحظ كثيرا ذكر التفاصيل التي تتعلّق بمواضيع مختلفة كالفساد، والبطالة، والاقتصاد وغير ذلك، بل كنت أستمع من المتناظرين -وقد أصبح أحدهما رئيسا- إلى مبادئ، وأحكام عامة، تكاد تخلو من التفاصيل..! ولقد شاركني كثير من المحلّلين هذا الرأي. فما هي مدلولات ذلك في ثقافتنا العربية؟!
إنّ المدلولات من وجهة نظري لذلك كثيرة، فمن ذلك أننا قد فهمنا "التوكّل على الله" مفهوما خاطئا، كما فهمه الإعرابي الذي حسب أن التوكّل يعني أن يترك دابّته دون أن يربطها، فردّ عليه سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم "بل اعقلها وتوكّل"، أيّ خذ بالأسباب ثم توكّل.
المدلول الثاني أنّنا فهمنا أنّ علينا المضي دون بصيرة "انفق ما في الجيب، يأتيك ما في الغيب" ولو كان ذلك لأجل الصدقة لأحسنّا تفسيره، ولكن تعلّق ذلك في جانب كبير منه بالثقافة الاستهلاكية السائدة، وما يختصّ بشؤون الحياة، أي أنّك لا تفكّر بالمستقبل، ولا ترهق ذهنك بتصوّر ما سيأتي، بل امض مغمض العينين، وستمضي أمورك بـ"البركة" لوحدها..!
المدلول الثالث هو أننا لا نريد أن نتحمّل المسؤولية التي تقتضي منا أن نواجه أيّة تحديات، بل أن نمضي دون وعود نقطعها، ودون تفاصيل محدّدة مشروطة بأوقات معينة لإنجازها، فذلك سيجعل حياتنا مرهونة بتلك المسؤولية، لهذا نسمع عن مشاريع مستقبلية، في وقت التدشين، ثم نسأل عنها بعد ردح من الزّمان، فلا نتلقىّ أجابات واضحة حولها..!
المدلول الرابع أننا لا نريد أن نتبنّى مشاريع تكون نتائجها بعيدة الحصاد، فالمسؤول قد لا يكون في منصبه بعد سنوات من الحصاد، وقد تحسب إنجازاتها للمسؤول الذي يليه، بل نعشق النتائج الآنية حتى تحسب النتائج المتحققة في عهدنا، وكأنّنا نتحدث عن إنجازات شخصية وليست وطنية..!
إنّ مفردة "المستقبل" لا يمكنها أن تكون ذات معنى ومدلول في عقولنا، وعقول الناشئة ما لم ترتبط بالغايات. وليعذرني القارئ في أن استحضر مثلا للدلالة على المضامين التي تحملها مفردة "المستقبل" في العقلية الصهيونية، ومبرر هذا المثل هو فهم عقلية العدو الذي استطاع أن يؤسس وطنا في أرض ليست أرضه، ففي يوم 29 أغسطس 1897 عقد المؤتمر الصهيوني الأول للمنظمة الصهيونية بزعامة تيودور هرتزل في مدينة بازل بسويسرا، وكانت أهم نتائجه تنفيذ البرنامج الصهيوني الذي ينص على أنّ "هدف الصهيوني هو إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين يضمنه القانون العام". وحددّت مدّة (50) عاما لقيام ذلك الوطن. عملت بعدها المنظمة الصهيونية العالمية على ذلك الهدف المستقبلي، الأمر الذي تحقق على أرض فلسطين عام 1948، أي بعد خمسين عامًا..!
الشاهد أنّ علينا أن نحدّد الغايات الوطنية مقرونة بكلمة "المستقبل" لأنّ الغايات هي التي تجعل من هذه المفردة ذات معنى واضح، ومدلول بيّن، فيتشرّبها الناشئة منذ بواكير أعمارهم لتكون نصب أعينهم وبهذه الطريقة فإننا سنقدّم خدمة عظيمة لأبنائنا، يقول بيتر دراكر "أفضل طريقة لتوقع المستقبل هي المشاركة في بنائه"، وتقتضي المشاركة مثول الغايات واضحة، جليّة في العقول لصنع مستقبل واضح المعالم، وليس العيش على مجرّد كلمة فارغة ليس لها مضمون..!