حدود مسؤولية المثقف (2 - 2)

 

عبد الله العليان

لا شك أنَّ حضور المُثقف ليس عاديا أو هامشيا، بل إنَّ هذا الحضور يمثل وجهاً من وجوه مسؤولية اجتماعية ومعرفية، بما يؤديه من أدوار تسهم في الحراك الثقافي، وهذه تقع على عاتق المثقف، ودوره المهم في التثقيف، وخلق الوعي، والتفاعل مع قضايا وتطلعات المواطن وهمومه.

ويرى د. محمد حامد الأحمري في كتابه "مسؤولية المثقف"، الذي أشرنا إليه الأسبوع المنصرم، أن مهام المثقف تجاه نفسه وتجاه مجتمعه، أن عليه الالتزام والعمل "الجاد المستمر على تنمية قدراته في المعرفة والعلاقات، بحيث لا يتهاون ولا يمل، ولا يتساهل في وقته سعياً للتطوير كلما أمكنه، فمن علامات موت الثقافة عند الفرد شعوره بالاكتفاء منها، وهو ما يُسميه مالك بن نبي(كمال العقم)، لأن المعرفة والثقافة عملية مستمر، فأنت تستفيد أحياناً مما تحتاجه من معرفة وعلم وموقف وحوادث أخرى لا صلة ظاهرة بينها وبين وما أنت بصدده، أو ما يوحي لك التخصص به. وقد قيل: "لا تصل إلى ما تحتاج من علم حتى تعلم ما لا تحتاجه".

 ويرى د. الأحمري أن هناك جوانب من المهم أن يراعيها المثقف، وأن يعبر عنها أحسن تعبير، بما يحمله من قدرات ومعارف، ومنها" أن يكون قادراً على التعبير عمَّا لديه من معرفة ورؤية، وهي القدرة البيانية وأهم جوانبها اللغة. ولهذا فالرسوخ في الآداب سلاح المثقف، وقد بالغ كثيرون في هذا الجانب حتى توهموا أنَّ اللغة والأدب هي السلاح والمعركة والغاية، وتهاون بها آخرون فعجزت لغتهم عن إيصال رسالتهم فلم يستطيعوا ممارسة دورهم، وكذا الاستعداد للمُتابعة لما يسعى لإصلاحه، فالمعرفة بالقضية محل النقاش وما قيل عنها". وهناك تعريفات عديدة للتعريف بالمثقف، وكل أيديولوجية فكرية أو سياسية، أو فلسفية، لها تعريف وفقها قناعات هذه الآيديولوجية، وكان أكثرها بدأ مع ظهور الفلسفات المعاصرة، سواء الليبرالية أو الماركسية، أو الأفكار المحافظة، لكن د. محمد حامد الأحمري، له تعريف أختاره من هذه التعريفات الرائجة، التي أكثرها كانت في فترة الحرب البادرة وصراع القطبية، فيرى أنه مما يجب للمثقف "أن تكون له حصيلة من موارد ما نعبر عنه بالثقافة في عرف زماننا العربي هذا وثقافتنا، وهي تشير بالدرجة الأولى إلى نصيب معرفي جيد في العلوم الدينية والإنسانية، وما يجاوزها من رؤوس المعارف العامة، وليس معنى نمط الحياة والتقاليد والنظم التي تقع تحت مسار الحضارة، ولا المهن التي تقع تحت الاحتراف المهني من أي عمل كالطب والهندسة، وأحياناً يكون الباحث الإنساني مهنياً لا مثقفاً عندما تقّل أو لا توجد له مشاركة في حركة الفكر والثقافة والمساهمة المجتمعية معرفة أو ترويجاً ومشاركة، مثل كثير من الأكاديميين الذين يبتغون بكتاباتهم الترقية المهنية وما حفّ بها".

وهناك، كما يرى د. الأحمري، أن بعض المثقفين، لم يخرجوا من إرث ثقافتهم، وبقوا جامدين على هذا الفكر، أو الأحكام المسبقة، وعقد الأحمري، مقارنة بين المستشرق المسلم محمد أسد، وبين برنارد لويس، فالأول، رأى الحقيقة، وكتب عنها بكل أريحية ومصداقية، خصوصاً في كتابه (الطريق إلى مكة)، أما برنارد لويس، فبقي رهين ـ مع ثقافته وذكائه وسعة إطلاعه ـ متعصباً للنزعة الصهيونية، من حيث تحريف الأفكار وتكريس النزعة الاستشراقية، كما كشفها إدوارد سعيد وغيره من الباحثين، فيقول الأحمري "قد أكون في تقييمي لمثقف مثل محمد أسد منحازاً بحسب نتائجه، لكن صهيونياً معاصراً له ـ وأعني برنارد لويس ـ لم يجعل من معرفته وذكائه وتحليله رافداً يليق بمثقف عالمي، بل بقي في خلاصة ما وصل إليه كاتب وصفات تكتيكية للغزاة، بل بلغ به ضيق أفقه أن يراجع حماسته اليسارية ـ و" العلمية" كما يقال عنه من عرب فرحوا به أول مرة ـ ويعيد تحريف أفكاره الايجابية عن العرب ليمحصها سلبية، منسجمة مع الانحراف الصهيوني الجارف الذي انساق في ثلث عمره الأخير". ويشير د. محمد حامد الأحمري في خاتمة كتابه، إلى أن الحاجة لدور المثقف في واقعنا العربي، حاجة ملحة وهامة، لأن الدور الذي من المفترض أن يقوم به المثقف، لا يزال هامشياً، فإذا "كان المثقف في المجتمعات التي حققت حقوقها وتطورت حرياتها قد خبا نجمه وضعف دوره فذلك يليق بتلك المجتمعات. أما مجتمعاتنا فهي أحوج ما تكون إلى المثقف الحر ليقوم بدوره لأنه لم ينجز إلى الآن. والمثقف عندنا أحياناً لم يزل يتلمس أو يحاول خُطاه الأولى، ولم يقم جمع كبير منهم بواجبهم، ولا يجوز لعاقل أن يقارن دور المثقف الذي لم ينجز بدور مثقف في مجتمعات أخرى، فالمقارنة السلبية خداع، فنحن على العتبات الأولى وينتظرنا دور وأمانة ورسالة لم تُنجز وفراغ رسالي عظيم، في أمة ينهبها الجهل والخوف والاستبداد والتبعية". والحقيقة أنَّ إشكالية المثقف، أو ما يسميها البعض، أزمة المثقف، إشكالية قائمة، والنقد الموجه للمثقف، مسألة مهمة، لفتح آفاق النقاش والحوار، وكسر العوائق التي تحول دون أن يعرف المثقف النقد الموجه له، كما يراه البعض خافتاً ومنزوياً وسلبياً، وكتاب د.الأحمري، من الكتب التي كما يقال (تلقي بالحجر في المياه الراكدة).