المستقبل يبدأ الآن (4)
د. صالح الفهدي
لا يشعُر المجتمع بالمتغيرات التي تحدثُ فيه إلَّا عبرَ "حدقة كبرى" راصدة بدقةٍ شديدة، كما لا يشعر الأب بالتغيُّر البيولوجي الذي يحدثُ لابنهِ؛ لأنه لا يلاحظ التغيرات الدقيقة التي يمرُّ بها، إلاَّ إذا سافرَ فترةً من الزَّمنِ وانقطعَ عنه، ثم عادَ ليجدهُ وقد اشتدَّ عوده، ونبت ذقنه، وطالت قامته. يقول د. خالص جلبي في كتابه "رسالة في الاستبداد": "من يعش في مجتمع يرى يومياته، ويكرِّر هذه المراقبة، سوف يصابُ بزغللةِ العين، فلن يرى شيئاً يبعث على الدهشة من تغيِّر فاقع ساحر، وهذه الرؤية خلف الإحباطات النفسية واليأس عند المصلحين الاجتماعيين الذين يريدون رؤية التغيرات الحاسمة في عصرهم وعمرهم، لكنهم لن يروا تغيُّراً يُذكر مع أنه تغيُّر متدفقٌ لا يعرف التوقف".
المجتمعُ القادر على رَصْد متغيِّراته هو المجتمع القادر على إدارة التحكم في اتجاهاته، وهذا يتطلَّب مراكز دراسات وأبحاث راصدة للحراك الاجتماعي، والمتغيرات الثقافية التي تصاحبها. ومثل الأب البعيد عاطفياً عن ابنهِ، غير المتابع لتطوِّره، وأفكارهِ، وما يمرُّ به من تقلبات فكريَّةٍ، بل إنه في نظر الأب ذلك الابنُ الصغير الذي لا يعي شيئاً مِمَّا يحيطُ به، ثم فجأةً حين يحدثُ موقفٌ من المواقف يُشدَهُ الأبُ وهو يسمع الابنَ يتدفَّقُ بأفكارٍ منتظمةٍ، بلغةٍ رزينةٍ واضحة المعاني والمقاصد..! فيصعقُ وكأن لسان حاله يهسهس لابنه: "من أينَ لكَ هذا؟".. أو أنه يُصدمُ حين يرتكبُ ابنه فعلاً لم يكن يتصوَّره إطلاقاً (أحد الآباء ارتكبَ ابنهُ جريمةً، وحينَ جلستُ معه قلتُ له: أنت تتحمَّل جزءاً مما حدث لبُعدكَ عنه، فكيف تصدمُ الآنَ من فعلته، ولم تكن تعرف شيئا عن سلوكاته).
مِثل هذا الأب، يبدو المجتمع الذي يفتقدُ إلى مراكز وآليات الرصد -لا أقصدُ بها الموجهة أيديولوجيًّا- بل تلك المُصلحة أخلاقيًّا، واجتماعيًّا وفق السمات العُليا التي نشأ عليها المجتمع، وتدرَّج خلالها عبر مراحل زمنيَّة متتابعة.
هذا المجتمعُ يصابُ بصدمةٍ لا يكادُ يصدِّقُ أسبابها، حين يرى أنَّ القيم التي قضى دهراً وهو يظنُّ أنها عالقةٌ به علوق الجلدِ بالعظم تتكشَّفُ عن فراغٍ أجوفٍ تحتها، أو أن الرمَّة قد نخرت جوفها في منعطفٍ تاريخي ما (كنتُ مشاركاً في إحدى جلسات الحوار، فتحدثتُ عن تضعضعٍ تشهدهُ القيم التي نشأ عليها المجتمع، فلم يُرق كلامي هذا لأحد الضيوف الذي رفع صوته مؤكداً أن قيمنا راسخة لا يشوبها شائب، ولا يطولها طائل، فرددتُ قائلاً: إذا كان ذلك صحيحاً، فلِمَ نحنُ هنا في ندوة عُقدت من أجل مناقشة الضعف الذي شابَ القيم؟!).
لا ألومُ هذا الرجل وأمثاله، فالتحيُّزُ نحو أصالة التاريخ، ورسوخ القيم التي نشأ عليها المجتمع، وما يصحبُ ذلك من افتخار واعتزاز يجعلُ بعض الناس لا يرون المتغيرات التي تنالُ من هذا المُكتسب التاريخي، والإرث الثقافي الذي نشأوا عليه!
إنَّ اليابان التي نفزعُ إليها في ضربِ أمثلتنا الحضارية، تمتلكُ مجسَّات دقيقة لرصد المجتمع، وحين لاحَظت سلوكات لا تنتمي للثقافة اليابانية الأصيلة، فَرَضَت على الفورِ مادة (الأخلاقيات) في مدارسها منذ العام 2018، عائدةً بجذورها الأخلاقية في هذه المادة إلى (فترة إيدو 1603-1868م). ما الذي يدفعُ اليابان وهي دولةٌ تخطُّ طريقاً واضحاً نحو المستقبل في تصحيح مساراتها الأخلاقية؟ إنَّها الهُوية الوطنية بلا شك، تلك التي لا يكون لشعبٍ ما من كيانٍ دونها، وهي تعلمُ علمَ اليقين أن الرأسمالية الغربية تتقصَّد بشركاتها المتعدية الحدود إذابة الهُويات من أجل إعادة تشكيل الهوية التي تخدمُ مصالحها في إطار مظلة العولمة.
غير أنَّنا نمرُّ في إشكالياتٍ لا نشعرُ بها إلا في الأزمات، والمنعطفات التاريخية، والأحداث الكُبرى، حيثُ تنكشفُ الكثير من الإخفاقات، وقد كتبتُ ذات مرة "الأزمات تكشفُ الأخطاء"، ولم تكن تلك الأخطاء لتظهر لو أن هناك تتبُّعاً حثيثاً، ورصداً دقيقاً لمسارات المجتمع، وآليات إدارته، وعمليات بنائه، وطرق سياسته، ووسائل تنشئته.
إنَّ أيَّ مجتمع لا يمكنُ أن يغفل وجود "حدقةٍ كُبرى" تراقبُ تحوُّلاته وتغيُّراته مع كرِّ الأيام، وتعاقب السنوات، من أجل تقييم مسار المجتمع نحو المستقبل، وتبيان الدوافع من المعيقات في طريق نمائه، وتوضيح وسائل رقيِّه من مثبِّطات نكوصه، فدورةُ الزمنِ مرهونةٌ بحراكِ المجتمع، فإذا كان لكل قومٍ هلالهم -كما في الحديث الشريف- فلكل قومٍ دورتهم الزمنيَّة أيضاً، وفي ذلك يقول د. خالص جلبي: "فالمجتمع يبقى على حاله فلا يتغيَّر إلى قرون إن لم يقم بعض الأفراد في عمل ريادي لتطوير أفكار المجتمع والتحرُّر من الأفكار السلبية الضارة، وهو الموقف الإبراهيمي في النقاش الذي دار مع قومه حين ركبوا رؤوسهم مع كل وضوح الحجة تحت ضغط الفكرة "الآبائية".
خلاصة الأمرِ هنا.. أن المستقبل رهينٌ المتغيرات التي تحدثُ للمجتمع، فقد يظل المجتمع يتحدث عن المستقبل ليل نهار بينما لم يتحرك قيد أنملةٍ من مكانه نحو هذا المستقبل؛ فهو ينتظر من يأتي ليأخذ بيده (وكم هو طاغ مفهوم: أن فلان صاحبُ مواهب وقدرات، ولكن لم يأخذ أحد بيده، فضاعت مواهبه وقدراته..!). وما لم توجد "حدقة كبرى" ترى حِراك المجتمع، ومتغيِّراته فإنَّ المستقبل سيظلُّ وهماً من الأوهام التي تداعبُ أخيلة الحالمين!