علي بن مسعود المعشني
Ali95312606@gmail.com
الغَارمُون في سلطنتنا الحبيبة ليس لهم من سَنَد ولا مَصِير إلا السُّجون؛ بسبب نظرة المجتمع والحكومة والقطاع الخاص لهم، بأنهم أناسٌ فاقدو الأهلية وغير جديرين بالشفقة والعون، وأنهم مُتلاعبون بأموال الناس والبنوك، ولا يُجِيدون التصرف بالأموال، ولا إدارة الأنشطة التجارية؛ وبالتالي فمكانهم الطبيعي هو السجن بلا شفقة ولا رحمة.
وفي العام 2009م، التقيتُ رجلَ أعمال عُمانيًّا، أنعم الله عليه بثروة مالية كبيرة، واستأمنه عليها، وللرجل إسهامات مشكورة وأيادٍ بيضاء في العمل الخيري؛ فشكرتُه وأطريت على جهوده الخيرية الناصعة، ونبهته إلى نقطة قد تكون غائبة عنه، وهي أنَّ أغلب نزلاء السجون في السلطنة من ضحايا شكاوى الشركات التي يملكها، وهذا الأمر يتنافى مع جهوده الخيرية لمساعدة المُعسرين والفقراء ومن في حكمهم من فئات المجتمع؛ فغضب مني وقال لي: لقد أعطيت تعليمات للموظفين المعنيين بتحصيل الديون في شركاتي بعدم رفع قضايا على الفئات الضعيفة إلا بعد إخطاري، ثم أردف بالقول: أنا معك بأنَّ هناك من التجار في السلطنة مِمَّن لا يراعون ظروف هؤلاء الناس، ويحيلون جميع المبالغ المتأخرة إلى المحاكم دون تفاهم. فشكرته واقترحت عليه تخصيص مبلغ سنوي لا يتعدى الـ1% من المبالغ السنوية التي يُخصِّصها للعمل الخيري للغارمين، وأنْ يُنسِّق مع الجهات المختصة كالشرطة والادعاء العام والقضاء بتحويل تلك الحالات المُعسرة إليه لسدادها؛ حيث بيَّنت له أنَّ الغارمين ظروفهم سيئة للغاية، فهم سيفقدون أعمالهم ومصادر دخولهم، وتتشتَّت أسرهم مع فقد حرياتهم بعقوبة السجن، ثم تتوالى معاناتهم بعد خروجهم من السجون حتى يُعاد لهم الاعتبار، ويرممون حياتهم من جديد نفسيًّا وماديًّا ومعنويًّا، وسيواجهون مصائر جديدة وحياة مختلفة عن سابقتها. هُنا، شعرت أنَّ كلامي لم يُطربه، ولم يرق، له فأستأذنته وودعته، وفي نفسي تسجيل نقطة على مسمعه على الأقل.
الجميعُ يعلم في السلطنة أنَّ قضايا الشيكات والقروض الشخصية تتصدران المشهد القضائي بامتياز، ولعقود خلت، والجميع يتفرج على هذه الظواهر وهي تفتك بالمجتمع أفرادًا وجماعات، ولا أحد يريد أن يتدخل لحلها، أو تخفيف ضررها على الحكومة والقطاع الخاص والمجتمع، رغم توافر الحلول والبدائل، وكأنها من لزوميات الدولة العصرية.
لا البُنوك مُلزَمَة بتفعيل مُوَازنات الديون المعدومة السنوية؛ لأنَّ جميع الجهات المختصة تُحصل لها ديونها بكل ارتياح، ولا الوقف الشرعي يقُوم بدور فاعل للتخفيف عن وطأة المواطنين الغارمين المُعسرين، ولا توجد منظومة عمل خيري من مؤسسات قطاع خاص أو رجال أعمال أو جهد أهلي، تُعين الغارمين وتخفِّف من معاناتهم، وكما هي الحال في أقطار الجوار؛ حيث نجد صناديق الزكاة وصناديق الأوقاف والجمعيات الخيرية للأفراد والمؤسسات والأهالي وأنشطة المسؤوليات الاجتماعية للشركات والمؤسسات الخاصة.
الحقيقة أقول بأنَّ الأمر يحتاج وقفة قوية ومعالجات منظمة ودائمة لجبر ضرر الجميع من هذه الظاهرة، والتي أصبحت تُؤرِّق المجتمع؛ فمن ليس معنيًّا بها يتألم لحال قريب أو صديق أو زميل أوقعته الظروف في شراك الديون ونغَّصت حياته.
سيقول بعض قراء هذا المقال إنَّ الغارمين هم من جلبوا لأنفسهم المتاعب والعواقب، وهذا كلام مُرسل وغير مبني على منطق أو حقيقة؛ فالغارم له تعريف شرعي وقانوني، وله حق على المجتمع والدولة بالعون والمساعدة؛ فالغارم ليس مُرتادَ صالات قمار، ولا مختلسَ أموال عامة، ولا سارقَ أموال ناس، ولا من مارس النصب والاحتيال على الناس، لدينا خَلْط كبير في المفاهيم والعلاج للهروب من لبِّ المشكلة والمسؤولية معًا، وعلينا أنْ ننظرَ في المقابل إلى النسبة الكبيرة من الملتزمين في السداد، ولدينا الكثير كذلك من الذين يُواجهون معاناتهم المالية بصمت وبجهود فردية دون عون من أحد.
سمعتُ كثيرًا -وللأسف الشديد- من يقولون بفرضية وعقلية البُعد الواحد، ويجردون هذا الشعب الأبي الكريم من كلِّ قيمه وموروثه وأخلاقه، فحِين تتحدَّث عن الغارمين ومساعدتهم تجد من يعارض ذلك بزعم عدم التشجيع على الديون!! وحين تتحدَّث عن ضرورة مساعدة أسر الضمان الاجتماعي ومن في حكمها من أسر مُتعفِّفة وذوي الدخل المحدود وشريحة مهمة من المتقاعدين، وتطالب بضرورة تبسيط الظروف المعيشية لهم كجميع بلاد العالم وتخفيف الرسوم والضرائب عليهم ومنحهم امتيازات معيشية تجد من يقول بأنَّ هذا سيشجع المواطنين على امتهان الضمان الاجتماعي!! وكأنه يريد القول كذلك بأنَّ المواطنين سيمتهنون الفقر ويهرولون نحو التقاعد لينالوا تلك الامتيازات!! هذه العقليات في الحقيقة -والتي تعيش خارج دوائر العقل والمنطق- لها حضور وتأثير للأسف في القرارات والقوانين والاجراءات كذلك، وتريد أفهامنا بأن ما يدور حولنا في العالم من معالجات للتخفيف من آثار الفقر والعوز والضرر الاجتماعي هي من باب العبث والتشجيع على انتحال صفات وأحوال مضللة وغير صحيحة.
وبالشكر تدوم النعم...،
---------------------
قبل اللقاء: لابُد لي من القول بأنَّني تردني الكثير من المظالم والمعاناة والظروف، والتي تُطالبني بإسماع أصواتهم ونقل معاناتهم الى المعنيين والمهتمين من مؤسسات وأفراد، وأنا هنا أنقل شيئًا من هذه المعاناة لمن أراد أن يفهم حقيقة أوضاع ومعاناة الغارمين ومن في حكمهم من المُعسرين لمساعدتهم باليد والقانون معًا، قبل أن تنزلقَ الأمور ونفقد السيطرة عليها؛ فالوضع يتدحرج بصَمت ويتعاظم ككرة الثلج.