نعمة الفيتوري..واقعية في سياقات حالمة تعيد تفسير الأشياء والعالم

 

مشعل العبادي

يقول صمويل تيلور كولردج:  " الشعر نقيض العلم، هدفه المباشر اللذة، وليست الحقيقة "  وعبر رحلة شعرية بدأتها "نعمة الفيتوري" مع ديوانها الأول "آنات ذاتي" بوصفه مستهل التجربة، لكن ما أعده مختصًا بإعلان التفاصيل والملم بخفايا التجربة وأعماقها؛ فهو ما طرح لنا بين دفتي هذا الديوان ..

عبر تجربة شعرية كاشفة عن مساحة من التميز، ومن خلال متابعة التجربة في تفاصيلها، ومكاشفة التفاصيل في دلالتها، وقدراتها الجمالية؛ نتوثق من اكتمال نضج تجربتها الإبداعية، واكتمال القصيدة لديها، من خلال مساحات الثراء متعددة المستويات..

تقدم الشاعرة خمساً وأربعين نصّاً، تمثل تجربة شعرية متجانسة منفتحة على الذات، وعلى عالمها وواقعها، متخذًة من اللغة البسيطة، والمجاز الشفاف أداة لتشكيل النص الشعري، وتتألق بنثرية القصيدة التي تصادف أحياناً وزنًا شعريّاً، مناسباً لإيقاع التجربة واللحظة المواتية للكتابة، وتتناول أيضاً نصوصاً نثرية، تعمل فيها القصيدة الحديثة بشكل واضح وجلي على تشكيل سماتها الشكلية الخاصة، بما لها من تميزها، و بما تمتلك من وعي خاص وطرائق خاصة في التعبير..

(عنفوان) هو عنوان الديوان الجامع للنصوص، حيث العنوان صيغة مستقلة لا تتنازعها القصائد ولم يكن لها وجود في أي منها مما يجعله صيغة لها قدرتها الدلالية الخاصة خارج سيطرة احتضان أي قصيدة أو نص سردي للعنوان حال وروده في واحدة منها..

في هدوء المتأمل تتشكل شاعرية " نعمة الفيتوري "؛ لتطرح التجربة تفاصيلها المفرودة على مدار نصوصها الشعرية، كمن تزن الكلمات واضعة إياها فيما يليق بها من مواضع تنجز الشاعرة نصوصها، وتقيم بلاغتها للاتصال بمتلقيها:

من نص "حلم"..

بلا اسم ..

ألمح أسراب نحل تعشش فوق قبري ..

الذي نبتت فوقه الورود .. بلا أشواك .

تجرب الشاعرة قلمها الشعري في أشكال شعرية متعددة، وتتداخل في هذه الرؤى الشعرية عوالم كثيرة متداخلة، الحبيب هو الأساس فيها، ويتلون الحبيب بلون اللحظة الشعرية ونوع الحافز على الكتابة، وخلق هذا التداخل في العوالم زخماً وكثافةً شعريةً ملأت النصوص بالمجاز وحولت النص إلى عالم خاص، شفاف، مليء ببذور موضوعات متفردة .. أيضا تجلت شفافية الرؤية الشعرية في هذا الديوان، والتي أظهرت الشاعرة فيها مقدرتها في الألاعيب اللغوية والتقنية.

من "اعتراض" عنوان القصيدة الأولى إلى "أنا .. وهي" عنوان القصيدة الأخيرة تتبلور رؤية الشاعرة في سلسلة تتفرع منها مجموعة من الخيوط والتفاصيل المكونة للعالم في مقاربة بكامل الوعي، تقيم نصوص الديوان على سردية تشبه المتوالية السردية، فالـ "اعتراض" يكشف عن: "اُقتلني" والقتل بدوره يأخذنا إلى "انهيار" الذي يتصف بأنه حتمي الوقوع به :

"لكني سأسقط على كل حال

وأبحث عن شيٍء ما يدلني

علي وجودي

وعليك ."

فرضت التجربة الآنية على "نعمة الفيتوري" هذا الشكل البسيط للقصيدة، وهذه اللغة المجازية الشفافة، فكانت مصدراً للمتعة الفنية والجمالية.

والشاعرة لا تستسلم وإنما تحاول الخروج بعناصر واقعية في سياقات حالمة، لكنها سريعاً ما تعود لعالمها المفضل المتعالي بالشعر على الواقع، في أحلام تتقاطع مع القصيدة.. من نص "نبض روحي":

"سأتماثل للحب

يكفيني ..

نصوصي أكتبها بملء روحي

أعيشها.. ولا أعيشها

أمرغها بطيني فتنبت الكلمات

قطرات ندى تعشش على النوافذ المواربة

في انتظارٍ لا ينتهي ."

 

بالطبع لا تقوم العلاقة بين نصوص الديوان على هذا الربط الشكلي فقط وإنما تقوم مجموعة من الروابط بين النصوص لتجعل منها نصا واحدا متعدد التفاصيل، منها على سبيل المثال النص السردي "أنا إمرأة جافة":

"أنا امرأة جافة سالت مني كل الأشواق ولوعة الحب والآهات وانزوت في ذاتي ربما لم يحن آوان البلل بعد وربما لن يأتي أبداً وسأبقى تلك المرأة الجافة."

لا تقدم لنا الشاعرة ما تراه عبر رؤيتها، بل هي تعيد تفسير الأشياء والعالم، ويكون علينا أن نقبل بهذا التفسير ما دمنا ندرك طبيعته ومستهدفاته، وما دمنا على يقين أن للشاعرة رسالة تجتهد أن تكون مؤثرة مثل نص "المجاز":

وصديقي سيبقى صديقي

وهذه أقصر الطرق

والأكثر سحراً

وإن طلب المجاز ودي

سأقبل حتى لا أخسر

صديقي الذي أحب

 

نرى هذه النصوص الممتلكة قدرة على تقديم رؤيتها للعالم، وذاتية قد أعطت للمعنى أبعاداً شاسعة، وهي بالتأكيد ستفتح أمام المتلقي آفاقا رحبة، كما تدل على أن الشاعرة تحمل بداخلها طاقة شعرية كبيرة وأصيلة .

وأنا على يقين تام بأنّ الكاتبة "نعمة الفيتوري" ستضرب لنا موعداً في المستقبل القريب مع مُنجزٍ ثقافي جديد يحمل همّ النُّخبة ولا يغفل الجمهور بقوالب جديدة ممتلئة بالدهشة والمعرفة والرؤية .

                            

 

 

 

تعليق عبر الفيس بوك