الواقعية والواقع

 

مفيد خنسة | كاتب صحفي سوري

 

أرجو منك أيها القارئ العزيز أن تصبر علي وأنا أخاطبك أنت بالذات أينما كنت وبأي مستوى من مستويات الثقافة؛ ولدي رغبة حقيقية أن أناقش معك هذا المصطلح بتأن ووضوح وهو (الواقعية) ومن ثم مصطلح (الواقع) وأريد أن  أوضح فيما منحني الله من معرفة وأبين العلاقة بين المصطلحين أو المفهومين بعيدا عن التأويلات واستخدام المراجع؛ وبعيدا عن التعقيدات التي يروق للبعض ان يخوض بها ليظهر سعة اطلاعه واتساع معرفته.

تعني الواقعية بالمصطلح العام (تصوير الأشياء والعلاقات بصورة واضحة كما هي عليه في العالم الحقيقي الواقعي .. وبتصوير الجوهر الداخلي للأشياء وليس الجنوح إلى الفانتازيا أو الرومانسية) وهنا إذا دققنا معا بما يعني هذا المصطلح نجد أن التعريف يقع في مغالطات من جهة ؛ كما يقع في تناقض من جهة أخرى ؛ وفوق ذلك يتم الخلط بين المعنيين.. (الواقعية)،و(الواقع)؛ أن تعني الواقعية تصوير الأشياء والعلاقات بصورة واضحة فهذا المعنى يبتعد كليا عن المعنى الصحيح للواقعية مع احترامي الشديد للفلاسفة وعلماء الاجتماع الذين يجمعون على هذا المعنى للواقعية ؛ إن هذا المعنى أكثر ما ينطبق على الواقع .. نعم تصوير الأشياء والعلاقات بصورة واضحة يعني تصوير الواقع ولكن المعنى هنا يبقى قاصرا ولا يستطيع أن يمتد ليعني الواقعية أبدا.. أبدا.

إن تتمة المعنى للواقعية كما يجمع عليها بالمعنى العام تصوير الأشياء والعلاقات بصورة واضحة (كما هي عليه في العالم الحقيقي ... الواقعي) .. لاحظ معي.. (كما هي عليه في العالم الحقيقي ) يؤكد لنا بما لا يترك مجالا للشك أن الواقعية هنا مثلما يقدمها معنى هذا المصطلح تعني الواقع بالضبط وهذا تثبيت لما ذهبنا إليه . لكن إضافة الكلمة الأخيرة... (الواقعي) أي تصبح الجملة كما وردت هكذا (كما هي عليه في العالم الحقيقي الواقعي) يضعنا أمام تناقض واضح (الحقيقي الواقعي) هذا يعني فيما يعنيه أن العالم الحقيقي يعني العالم الواقعي وهذه  ضلالة أخرى وسنتبين ذلك حين أقدم معنى الواقعية بدقة. وفي تقديري الشخصي لو استبدلت هنا كلمة الواقعي بـ(الواقع) لكان أصح وأفضل .

ننتقل إلى الشق الثاني بما يعنيه مصطلح الواقعية كما هو وارد (وبتصوير الجوهر الداخلي للأشياء وليس الجنوح إلى الفانتازيا أو الرومانسية) وهنا يتضح لدينا الارتباك في استخدام (الجوهر الداخلي للأشياء) ويفيد المعنى السابق نفسه (تصوير الأشياء) و(الجوهر الداخلي هنا لا علاقة له بالمصطلحين معا لأن الجوهر يعني الماهية وهنا نكون قد أصبحنا في مقام آخر مختلف عن موضوعنا) أما القول: (وليس الجنوح إلى الفانتازيا أو الرومانسية) فيوضح لنا حقيقة الاتجاه الذي يعني الواقعية كما صورت وهو الابتعاد عن الخيال في الاتجاهين الرومانسي والفانتازيا؛ وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن هذا الاتجاه قد ظهر في القرن الثامن عشر فهذا يوضح اتجاه الاعتدال والمباشرة والوضوح في الوصف للواقع بكل مكوناته.

وإذا أردنا أن نتحدث عن تفرعات هذا المصطلح وما يعنيه؛ فسيطول الحديث ويتشعب حيث الواقعية السياسية والواقعية في الفن والواقعية في الفكر إلى آخر ما هنالك من تفرعات وفي تقديري كل هذه المصطلحات لم تأخذ المعنى الحقيقي لها لأن مصطلح الواقعية بحد ذاته غير واضح بالمعنى المعرفي. والآن عزيزي القارئ سنحاول معا تقديم هذا المعنى؛ وسأستعين بعلم الإحصاء والاحتمالات لكي تتوضح الصورة.

تعرف التجربة الاحتمالية أنها تجربة يمكن إجراؤها بحيث نعرف مجموعة النتائج الممكنة للتجربة من دون أن نعرف النتيجة التي ستحصل؛ وتدعى مجموعة النتائج الممكنة فضاء العينه . ويعرف الحدث بأنه مجموعة جزئية من فضاء العينة؛ ونقول إن حدثا ما قد وقع إذا كانت نتيجة التجربة عنصرا من عناصر هذه المجموعة الجزئية التي تشكل حدثا؛ وبهذا المعنى فإن كل مجموعة جزئية من فضاء العينة تشكل حدثا لكن يمكن أن يحدث إذا كانت نتيجة التجربة عنصرا منه ويمكن ألا يحدث إذا كانت نتيجة التجربة عنصرا لا ينتمي إلى الحدث ؛ عذرا هل أكون دخلت في مغامرة.. أبدا أبدا أجد البوابة قد فتحت بالشكل الصحيح لمعرفة ماذا تعني الواقعية وماذا يعني الواقع..

إن الواقعية هنا تعني النتيجة المنطقية.. أي النتيجة الممكنة وكل حدث يمكن أن يحصل هو واقعي؛ وكل نتيجة يمكن أن تحصل هي نتيجة واقعية بالضرورة لكن الذي يقع حقا هذا ما يعني الواقع بالفعل أي ما حصل خلال إجراء التجربة بعينها.

الواقعية إذن هي ما يمكن أن يكون والواقع ما كان فعلا.

مثال بسيط داعم: حين نلقي حجر نرد بستة وجوه إن كل وجه من الوجوه له الفرصة نفسها بالظهور فالواقعي هنا ظهور أحد الوجوه من الواحد إلى السته ولكن الواقع يعني ظهور أحدها خلال تجربة معينة.. وبذلك يصبح الواقع واقعيا لأنه يشكل إمكانية للحدوث من بين عدد من الإمكانات المتاحة.

طبعا في علم الاجتماع يغدو الأمر معقدا لأن الدراسة تكون عادة على عينة من المجتمع الإحصائي لكن المبدأ يبقى نفسه. إذ أن  كل قضية من القضايا تكون مفتوحة على عدد من الاحتمالات منها ما هو منته ومنها غير منته فالنتيجة الواقعية هي مايمكن أن يكون أما الواقع فهو ما وقع منها.   

تعليق عبر الفيس بوك