الطَّعن في خاصرة الوطن

 

 

د. سعيد بن سالم الحارثي

مَع تَصاعُد وتيرة التَّسابق المحمُوم والزائف في أحيانٍ كثيرة نحو الانفتاح الاقتصادي، نقول ونذكِّر أولئك الذين يُتقنون ابتلاع لحمة الكتف دون مَضغِها، بأنَّ الوطنَ قاموسٌ هائلٌ لمفردات لا يجب أن تُنسى. فحذار حذار من أن نغفل عن تلك المفردات، مسحوبين بما يفيض به حب المادة على حياتنا.

ينظُر المواطن العادي إلى مفهوم الاقتصاد من زوايا أخرى تختلفُ تماماً عن تلك التي يُدرك مُعطياتها المختصُّون. أقصى ما يَرْغَب فيه كلُّ مواطن هو أن يلتحق بوظيفة تكفُل له الحياة الكريمة، ويحسِّن بها وضعه المعيشي، ويجد الحلولَ المناسبة التي تجعلُه مُندَمِجاً في الحياة الاجتماعية، له ما للناس وعليه ما عليهم. ولا يجب -بأي حال من الأحوال- أن يحرم المواطن البسيط من سبل الرفاهية ولو في أدنى مستوياتها، إذ هو جزءٌ لا يتجزَّأ من كيان الأيديولوجيَّات الفكرية والاجتماعية التي تتسارع بالعالم في قفزات طويلة ومضنية.

إنَّ نَزَاهة النظرة إلى ثروات الوطن يجب أن تتوافر لدى الجميع مع اختلاف مستوياتهم الخدمية وطبقاتهم الاجتماعية. وهذا بدَوْرِه يمثّل المدخل الأكثر عدلاً، وغير الوحيد، في معادلة ارتباط المواطن بالوطن. وارتباك هذه المعادلة تُحدثه فوضوية لغة المال التي تنعتق تماماً من الحدود التي تؤطر للحرية في أبعادها القيمية. وإن كانت سُبل الكسب المشروع محاطة بقواعد شرعية، فهي لا تتعدَّى أحد أمرين إما حلال وإما حرام، ولا تُوجد مصوِّغات أخرى للكسب تقع بين هذين القطبين. فمن السُّوء أن يَصِيغ الفرد فينا لنفسه فكرة المكروه غير المحرَّم بحجة التضحيات التي يقدمها للوطن، أو المندوب إليه غير الواجب بحجَّة أن الرزق بيد اللّه. إنَّ الشيء الوحيد الذي يُمكن أن يضمَّ جميع القيم المتعلقة بالفكر أو بالسلوك هو الوطن. وعلى هذه القاعدة تتقدم أمة وتتأخر أخرى. وعلى ذلك، فإنَّ حقيقة الوطن تتجاوَز كونها مُفردة تُشير إلى مكان ما ليبقى مجرداً من قوالبه القيمية. وكما بيَّنا فإنَّ الوطن قاموسٌ هائلٌ لمفردات يجب أن نعيها جيداً، ونعي كيف يُمكن لها أن تسيِّر حياتنا في قالب اجتماعي تكافلي يبعث بالطمأنينة إلى الجميع، ويكفل الحقوق، ويصون للمواطنة قيمتها وثقلها وكرامتها.

ولا يختلفُ اثنان على أنَّ بعضَ القيم لا تتشكل بالفطرة الإنسانية، وإنما في كثير من الأحيان تتداخل الأنظمة والتشريعات والقوانين المؤسسية لتضع لها الحدود اللازمة للحصول على نتائج إيجابية تتوافق مع الفطرة. إلا أنَّ بعضَ التشريعات يُمكنها أن تنحدِر بالقيم، وتجعلها رهينة لردات الفعل في المواقف غير المنصفة للأفراد. ونعلَم جميعاً أنَّ الشعرة الفارقة بين العدل والمساواة تلقِي بتداخلاتها على الحقوق والواجبات. فنجِد أنَّ خللاً ما يحدُّ من وضوح النصوص المنظمة لحقوق الموظفين على المؤسسة وحقوق المؤسسة على الموظفين. فقد يرغب السَّواد الأعظم من الموظفين في المساواة عندما تتعلَّق المسألة بترقياتهم المالية على سبيل المثال. وقد يرغبون فيها أيضاً لوأد التمييز بينهم في الامتيازات التي تمنحها المؤسسة لهم. ولكنَّ العدل كلَّ العدل أنْ لا يُشرع باب المساواة على مصراعيه، إذا ما رغبنا في تعظيم مبادئ جودة الإنتاجية في مؤسسات الوطن.

والشَّاهد في القول هنا، أنَّ الطَّعن في خاصرة الوطن قد يُحدثه أفراد طبيعيون بقصد أو من غير قَصد، خاصَّة أولئك الذين يتبعون قِيَماً تخل بسلوكهم تجاه الوطن نتيجة لردات الفعل مما يجدونه في بعض التشريعات التي تعاني خللًا قانونيًّا؛ وبذلك فهم مُؤثرون بنفس القدر الذي يؤثر به من يمتلكون سلوكيات لا أخلاقية تجاه المال العام. وعلى ذلك، فإنَّه علينا الاعتراف بأنَّ وجع الوطن قد يكون لسبب أو لآخر ناتج عن خلل في أنظمة بعض الأجهزة الحكومية، خاصَّة تلك المتعلقة بقواعد الثواب والعقاب.

حدَّثنِي أحدُ المسؤولين عن مُعَاناة أصحاب القرار في بعض المؤسسات مع الأحكام القضائية التي تصدر ضد المؤسسة، ولصالح الموظفين المتقاعسين، عندما يعمل المسؤول على مكافأة المجيدين. وفي أحوال كهذه، تسُود المساواة التي أسَّست لها القوانين والنظم على حساب العدل، ويُمكن أن يرد السبب أيضاً إلى سُوء تطبيق تلك اللوائح، وإلى ضَعْف الممارسات الوثائقية تجاه السلوكيات التي ترفع من مستوى الإنتاجية أو تنحدر به.. وستحدِّثكم بما هو أعظم أرْوِقة محاكم القضاء الإداري، والله المُستعان.

* كاتب وباحث

تعليق عبر الفيس بوك