الرقابة المستقلة .. رهانات نجاح "عمان 2040"

 

د. عبدالله باحجاج

الحقيقة التي لن نختلف عليها أبداً الآن، أنَّ هناك مسؤولين في مواقع مختلفة تميل بهم الأهواء "الجامحة" لتحقيق مصالحهم الخاصة على حساب مصالح المجتمع والدولة، ولسان حالهم يقول "من أمن العقاب أساء الأدب" ونحن نقول "من أمن العقاب أساء الأمانة"، ولنا مثال في قضية اختلاسات المال العام بوزارة التربية والتعليم.

وبعد انكشاف هذه القضية، أطلقت الهواجس الاجتماعية على المخفي منهم- أي ذلكم النوع من المسؤولين- في كل الاتجاهات، فكيف نحافظ على المال العام؟ وفي الوقت نفسه، كيف نُرسخ الثقة الاجتماعية في المسؤولية الحكومية؟ فطبيعة المرحلة التي تمر بها الدولة، تحتم طرح هذين التساؤلين بكل موضوعية وشفافية، والحتمية نفسها تقتضي إعمال الفكر في الإجابة عليهما.

قبل الإجابة عليهما، نذكر أنَّ سرقة المال العام تتم رغم وجود ضمانات تشريعية وسياسية ورقابية، فالمال حرمته مُصانة بمنظومة تشريعية شاملة، تبدأ من القمة، أي النظام الأساسي للدولة، كأعلى مرجعية دستورية، وتنتهي بمجموعة قوانين بمواد رادعة، تتدرج في صورها العقابية من العادية "كجنحة" وعقوبتها تأديبة، إلى المغلظة، وتعد جريمة جنائية رادعة.

وحتى لو تشددنا في التشريعات كإلغاء الجنحة ورفعها إلى جنائية، ورفع العقوبة إلى المؤبد، فمن المؤكد أنَّ التشريع لوحده لن يكون كافياً لردع الأنفس الضعيفة، بدليل اختلاسات وزارة التربية والتعليم التي بدا من خلال نشر تفاصيلها، وكأن الأموال العامة سائبة رغم وجود التشريعات المختلفة، ورغم وجود الرقابة الحكومية المتمثلة في جهاز الدولة للرقابة المالية والإدارية، ورغم وجود الضمانات السياسية المتمثلة هنا في دعوة عاهل البلاد المفدى- حفظه الله ورعاه- في افتتاح الفترة الخامسة لمجلس عُمان لمحاربة الفساد، أي قبل 12 عامًا، وكذلك تأكيد جلالته قبل نحو 36 عامًا، في خطاب وجهه إلى كبار رجال الدولة في 15- 5- 1978 على أن "الوظيفة تكليف ومسؤولية قبل أن تكون نفوذا أو سلطة"، وطالبهم بأن يكونوا جميعا قدوة ومثلاً يحتذى سواء في الولاء لوطنه أو المواظبة على عمله واحترام مواعيده، أو في سلوكه الوظيفي داخل مكان العمل أو خارجه، وفي حسن الأداء والكفاية.

ورغم كل هذه الضمانات، لم يسلم المال العام من السرقة، بل وتتم السرقة بعبثية وفوضوية وبغباء مكشوف، فما الحل؟ سنُركز على الحل من منظور تحديات التحولات الاقتصادية والمالية الجديدة وانعكاساتها على قضية الحفاظ على المال العام من جهة وكذلك اتجاه الحكومة نحو الضرائب والرسوم ورفع الدعم عن المجتمع، وتأثير سرقة المال العام على السيكولوجية الاجتماعية؟

لن يتحمل المجتمع بقاء هذا الوضع طويلاً كما هو عليه، فالمشهد متعارض بصورة صارخة من نواحٍ كثيرة، أبرزها: اشتداد الخناق المالي على المواطن في وقت يسرق فيه المال العام ومن بند المرتبات، وترقيات الموظفين مجمدة منذ بضع سنوات. ومثالنا هنا، اختلاسات وزارة التربية والتعليم التي طالت بند المرتبات.. في وقت تعتبر الحكومة المرتبات حمولة ثقيلة على موازنة الدولة، وكادت الأزمة النفطية التي مرَّت بها بلادنا أن تدفع الحكومة إلى خفض المرتبات.. فهل هذا الثقل مرجعه إلى مثل هذه الاختلاسات؟ ربما نكون قد قربنا الفهم العام للتأثير السيكولوجي الاجتماعي المقصود؟

والحل سياسي بامتياز، ونراه من منظورين الأول آني- أي فوري- والثاني قصير الأجل- أي سنة- فالآنية الحتمية، تقتضي إطلاق يد الأجهزة الرقابية الحالية، ومنحها التفويض السياسي لمحاسبة كل من يتسبب في هدر المال العام ويستغل نفوذه من أجل مصالحه الخاصة، ومحاسبته قضائياً مع التشديد في العقوبة والتشهير بهم. والثاني الحتمي كذلك، وضع استراتيجية خلال عام واحد فقط، تضع الإصبع على مكامن الخلل وتدق ناقوس الخطر على إهدار المال العام بصورته القانونية وغير القانونية، ومكافحة الفساد الإداري والمالي في تلازمية بين الجانبين كضمانة أساسية للحفاظ على المال العام.

فالفساد لا ينظر لتداعياته المالية التي تظهر فوق السطح بين الفينة والأخرى، وإنما في البيئات المنتجة له، بحيث يمكننا القول- من حيث المبدأ- إنَّ أي فساد مالي يكون نتيجة فساد إداري، من هنا نرى، أنه كلما تم اكتشاف فساد مالي، فعلينا اليقين بأن وراءه فساد إداري، هذه معادلة لوغاريتمية- أي علمية- تتوافق مع العقل والمنطق، وبالتالي، هل نحصر الفساد المالي في هذه القضية في ثلاث سنوات فقط؟ بمعنى آخر: هل المفسدون لم تلتصق بهم هذه الصفة إلا في تلكم المدة الزمنية المحددة وفي المنظور المالي؟ وبتوضيح آخر، ألم يسبق فسادهم المالي فساد إداري من منظور المبدأ العام الذي أوضحناه سابقا؟

تلكم سياقات نفتح بها الآفاق، لكي ندلل على أهمية الحل السياسي لضمانة المال العام، وهو يقتضي كذلك أن تحرص الاستراتيجية الجديدة على مناهضة الإفلات من العقاب وتكريس المتابعة في قضايا المال العام، وتطبيق قانون الذمة المالية لكل مسؤول حكومي وعمومي ومن يدخل مجلس عمان "الدولة والشورى".

فمن أولويات الاستراتيجية المقترحة كذلك، تفعيل الدور الرقابي لمجلس الشورى عبر فك القيود المفروضة على أهم أداتين دستوريتين وهما حق استجواب الوزراء، وحق التحقيق معهم، كرقابة مستقلة تستدعيها مرحلتنا الاقتصادية والمالية الجديدة، فهاتان الأداتان تحاصرهما مجموعة قيود تجعل من الصعوبة بل ومن المستحيل استخدامهما من قبل الأعضاء – وقد تناولتها في مقال سابق منشور بعنوان "هل آن الأوان للشورى الملزمة" – وفعلا، فقد آن الأوان الآن، الانتصار لهما لدواعي الحفاظ على المال العام، وهذه الرقابة المستقلة ينبغي الرهان عليها كثيراً في عصر الضرائب والرسوم ومرحلة إعادة هيكلة الاقتصاد العماني.

وهذا لن يكون كافياً إلا إذا ما تم إجراء إصلاحات إدارية شاملة وتنظيمية محكمة تشمل وحدات الخدمة المدنية والشركات الحكومية، فلو فتحنا ملف إنتاج الأطر والكوادر للوظيفة العمومية، والشركات الحكومية، فسنجد أنها تخرج من مصانع اللوبيات والمحسوبيات والتزكيات، وكذلك جمودها في المنصب لعقود طويلة رغم وجود توجيهات سامية بتحريكها الدوري والمناطقي.

والحل السياسي تحتمه كذلك، تساؤلات اجتماعية عامة وملحة تدور حول الأجهزة الرقابية الداخلية والخارجية، وكيف لم تكتشف الاختلاسات رغم عبثيتها وسهولة اكتشافها إلا بعد ثلاث سنوات خاصة إذا ما علمنا أن هناك جهة رقابة حكومية في المجالين المالي والإداري ترفع تقريرا سنويا للجهات العليا، وتعطي نسخة منه مجلس الشورى، فماذا كان يفعل ممثلو المنتخبين بهذا التقرير؟ وماذا كانت محتوياته الرقابية – بمعنى هل تضمن أية معلومات عن الفساد المالي في وزارة التربية والتعليم خاصة خلال أعوام – 2016 - 2019؟

قضية اختلاسات وزارة التربية والتعليم، ينبغي أن يتم التعاطي معها من كل النواحي، لكنها في الوقت نفسه، ينبغي أن تنقلنا إلى اتخاذ فعل حتمي وليس الإغراق في ردة الفعل، والفعل يكمن في تبني هذين المسارين المقترحين مع التركيز على الرقابة المستقلة، فلدينا الآن تجربة عليها ملاحظات كبيرة وهي تجربة "مراقبة السلطة التنفيذية لأدائها من داخل ذاتها" فكيف نتوقع نتائج هذا النوع من الرقابة رغم وجود الضمانات التشريعية والسياسية سالفة الذكر؟ لذلك، لابد من تفعيل رقابة مجلس الشورى خاصة في ظل عدم فصل السلطة عن الثروة، وهذه الأخيرة من الحتميات الجديدة التي ينبغي العمل عليها في الاستراتيجية الجديدة.

الاستراتيجية المقترحة، كان ينبغي أن تكون بصرف النظر عن انكشاف حالات الفساد الجديدة، فكيف بعدها؟ لأن بلادنا ستدشن قريباً مرحلة تطبيق رؤية "عمان 2040"، التي سيكون شغلها الشاغل تأسيس اقتصاد إنتاجي متعدد المصادر وفي الوقت نفسه المطلوب من الحكومة توفير الخدمات الأساسية للمواطنين وفق ظروفهم المالية والاقتصادية.. فكيف ستنجح والفساد يبتلع موارد الدولة المالية؟ ولا ينبغي كذلك إغفال عامل الوعي الاجتماعي المتعاظم بحقوقه.. وهذه كلها معطيات تدفع ببلادنا إلى حتمية وضع استراتيجية وطنية وفق الملامح سالفة الذكر وإجراء إصلاحات إدارية وتمكين الكفاءات والتكنوقراط المؤهلين والوطنيين والنزيهين للمرحلة الجديدة، فهل وصلت رسالتنا؟